عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 08-12-2012, 04:19 PM
الصورة الرمزية يزيد فاضلي
يزيد فاضلي يزيد فاضلي غير متواجد حالياً
عضو هيئة الشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: شرق الجزائر
المشاركات: 1,011

اوسمتي

افتراضي .../...

الفجوة أو الفـُـرقة بين الأجيال-أختي البديعة الكريمة قوافي-أو التي يَسِـمُهَا علماءُ الاجتماع بـ ( الهُوة بين الأجيال Le fossé entre les générations ) واقعٍ موجودٌ وحقيقة ٌلا يُمكنُ لعيْنٍ بصيرةٍ أو عقلٍ راشدٍ واعٍ مُلهَمٍ أن يتعامى عنها أو يَتجاوَزَهَا بالإلغاءِ والنكران...

ووجودُ هذه الهوة في مفاصل التلاحق الزمني والحضاري بين الأجيال المتعاقبةِ أمْرٌ طبيعيٌّ جدا لسببٍ بسيطٍ هو أن الجيلَ اللاحق دائماً له من آلياتِ التجدد والاجتهاد في متغيراتِ واقعهِ ما يختلفُ بنِسَبٍ متفاوتةٍ عن آلياتِ التجددِ والاجتهادِ في متغيراتِ واقعِ الجيل السابق أو الأسبق عنه،ويَستحيلُ إلزامُ الجيل اللاحق-وهو يَعيشُ واقعَ تلكَ المتغيراتِ-على متغيراتِ مَنْ سبَقَهُ من الأجيال...

هذه الهوة إذن-في وضعِها الطبيعي-أمْرٌ لا ضيْرَ فيهِ ولا خوفَ من تبِعاته،فأمرٌ طبيعي-وأنا ابنُ الأربعينَ سنة وابنُ المرحلةِ السابقة-أن ينشأ أولاَدي على مرحلةٍ لها أدواتها المتجددة في مجال المتغيرات أو آلياتِ الحياة التي تخضعُ للتجددِ والاجتهاد...

لكن هذه الهوة-أختي-تغدو مشكلة ًوتصبحُ عائقاً يمنعُ التواصلَ بين الجيل السابق واللاحق حين تكونُ الفجوة جَفوَة ً تتسِعُ هُوَّتـُها بينهما بسببِ الخلطِ الشنيع بين مفاهيم ( الثوابتِ ) و ( المتغيرات )...

فكثيرٌ من الآباء يَحرصونَ الحِرْصَ الشديدَ على وقايةِ أبنائهم من موْجاتِ العصر المدمرة والتي لا تخفى آثارُها على أحدٍ منا،وهي قواصِمُ لثوابتنا الشرعية والأخلاقيةِ ولا يُمكنُ أبداً-وتحتَ أيةِ ذريعةٍ-أن تتغيرَ أو تتبدلَ أو تنتفي من حياتنا مادمنا مسلمين،وحين يقلقُ الوالدان على أولادهما من هذه الناحية فقلقهُما في محلهِ،ولهما أن يُجندَا طاقاتِهما-في تنسيق وتعاون-على مواجهةِ تلكَ الموْجاتِ التي تسعى إلى سَلـْخِ أبنائنا من ثوابته المبدئية-في الأخلاق والعباداتِ والمعاملات-وإكسابهم حصانة ًإيمانية ًوتربوية ًوأخلاقية ًوعلمية ًوثقافية ًوتوعوية ًصحيحة ً،تجعلهم-وهم يعيشون متغيراتِ عصرهم-في منآى ومَعزلٍ فكري وشُعوري عن رجَّاتِ تلكَ الموْجاتِ التي لا تـُبْقي ولا تذر..!!

بيْدَ أن هذا الحِرْصَ يتحولُ في معاملةِ الآباءِ لأبنائهم إلى مِعْوَلِ هَدْمٍ وأداةٍ سلبيةٍ تصنعُ فجوةً بينهما يَصْعُبُ رَدْمُها حينما يُسيءُ الآباءُ التقديرَ فيخلطونَ في هذا الحِرْص بين الثوابتِ والمتغيرات..

بمعنَى أن يَضربَ الآباءُ خناقاً حديديا على أبنائهم بنقـْلِ ملامح عصرهم السابق إلى حياتهم الأحقة بما يَجعلُ الأبناءَ في تذبذبٍ شديدٍ بين مستجداتِ عصرهم التي ينبغي التكيُّفُ معها وبين ما يفرضه الآباءُ عليهم من آلياتِ العيْش التي عفا عليها الزمنُ وأصبحتْ من رواسب الماضي التي لا تصلحُ لعصرهم..!!

بعضُ الآباء،لأنه كانَ يعيشُ في زمنٍ لا تلفزيون فيه ولا هاتفَ ولا انترنت ولا وسائلَ مادية كثيرة وطرائق تخضعُ في وجودها للمتغير لا الثابت،يريدُ أن يُلزمَ أبناءَه على طبيعةِ ملامح الحياةِ التي عاش فيها وبها منذ ستين أو سبعين سنة خلتْ..!!!

كانتْ طبيعة هذه الملامح تسيرُ-في عصره-بوتيرةٍ لا تتجاوزُ البساطة َوالبدائية،فهو يُلزمُ أبناءَهُ-باسم الحفاظ على الثوابت ومحاربة الابتداع-على العيش في وقتهم وزمنهم الراهن الذي يتسم بالتعقيد والتغير والتجدد المذهل،يُلزمَهم أن يتحركوا بأدواتِ عصره هو لا أدواتهم وآلياتهم هم،في الوقت الذي يَعلمُ الكُلُّ فيه أنه لا يُمكنُ لجيل الأمة أن يصمدَ أمام تحدياتِ العصر المتغيرة إلا بالتكيُّفِ الإيجابي مع إيقاعاتِها التي لا ترحَمُ أبداً مَنْ تخلفَ عن رَكبها أو جَمُدَ في تحصيلها...

وهنا أحب أن أميط اللثامَ قليلاً عن ماهية ( المتغيرات ) التي أقصدها حتى لا يُساءَ فهمي...

المتغيراتِ التي أقصد..هي تلكَ التي تخضع لقاعدةِ الحديث الصحيح (( أنتم أعرفُ بشؤون دنياكم )) وقاعدة (( أينما تكن المصلحة فثم شرْعُ الله تعالى )) كما قررها الإمام ابن القيم قبلاً...

والمصلحة المرسَلة هنا تسري على المتغير الذي لا يتعارضُ مع مبدأ شرعي صحيح ثابتٍ،قطعيِّ الدلالة،قطعيِّ الثبوت،وهي تكونَ جائزة أو محظورة حسبَ ما تترتبُ عليه نتائجُها وآثارُها...

وقد تعلمنا من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله : (( ما رَجَحَتْ مصلحتـُه على مفسدتِه أجيزَ،وما غلبتْ مفسَدتـُهُ على مصلحته مُنِعَ إطلاقاً ))...

ولأضربْ مثالاً...

القولُ بأنْ يمنعَ الآباءُ التلفزيونَ أو الانترنت أو الهاتف أو أي مستجدٍّ مشابهٍ تحتَ ذريعةِ تحقق المفسدة،هو في الحقيقةِ قولٌ واهمٌ وتصرفٌ خاطئٌ،لأن هذه المستجداتِ التي لم تكن موجودة في أزمنة آبائنا وأسلافنا لا تحملُ المفسدة أو المصلحة في حد ذاتها إنما ما تحملُ في طياتِها وما تبثه،وكيفية استعمالها هو ما يُحددُ لي الحكمُ عليها في النهاية..أما منعُها أمام أجيالنا فهو وأدٌ عصريٌّ وتدميرٌ حضاريٌّ للأمةِ،ستستيقظ منه بعد مدةٍ-كما استيقظنا الآن-لتجدَ نفسَها ما زالتْ تعيشُ العصرَ الحجري أمامَ الأمم الأخرى التي تجاوزتـْها بملايين الكيلومتراتِ والأميال المحسوبة بالسنواتِ الضوئية..!!!!

العيبُ والمحظور ليسَ في التلفزيون..ولا في الهاتف الخليوي..ولا في الحاسوب والنت..ولا في السيارة والطائرة والقطار السريع والمصعد الأوتوماتيكي..ولا في الملعقة والشوكة والطاولة وفي اللباس والمظهر...ولا في آلياتِ التدريس في المدرسة والمعهد والجامعة والإدارة والمؤسسة ومواقع الخدمات...

المحظور ليسَ في هذه الأشياء بحد ذاتِها..ولا يَجوزُ منعُها لأنها تدخلُ في مجال المتغير الذي يجبُ على الآباء تفهُّمَه عن وعي راشدٍ راجح،بل أرى أن يُشجعَ الآباءُ أبناءَهم على اقتحام هذه المجالاتِ بقوةٍ وإرادةٍ وتحفيزٍ وتشجيعٍ ومباركةٍ..فقط وفقط على الآباءِ أن يُدركوا أن كثيراً من متغيراتِ العصر التي يعيشها الأبناءُ سلاحٌ ذو حديْن...

الأنترنت والتلفزيون مثلاً..ضرورتان عصريتان لإنسان هذه المرحلة..وهما لتلميذ المدرسة وطالب الجامعة والاستاذ والباحث-خصوصاً شبكة النت-لا مناص منهما أو تخلي عنهما،بيْدَ أنهما كما نعرف جميعاً وعاءان يحملان الخبيثَ والطيب..الغث والسمين..الصالح والطالح...النافع والضار..المفيد والمفسِد..وهنا يأتي دور الآباء بالتوعية المكثفةِ والتنشئة الشرعية والأخلاقية الصحيحة على ما ينبغي أن يكونوا عليه أمام متغيراتِ عصرهم...

وفي تقديري أن الفجوة تتسع بينهما ابتداءً من هذه النقطة بالذات..حينَ لا يَفهَمُ الآباءَ طبيعة عصر أبنائهم الذي هم فيه..حينَ يضطرب سُلمُ الأولوياتِ في حِسِّ الآباء بين ما ينبغي أن يَحرصوا عليه تجاهَ أبنائهم في الحفاظ على ثوابتهم وقِيَمهم ومُثلهم العليا التي لا تتبدلُ وتتغيرُ أبداً وبين مقتضياتِ مرحلتِهم التي تخضعُ لتجددِ الآلياتِ الحياتية المختلفة...

إن هذه الفجوة موجودة أختي الكريمة..وهي-للأسف-تتسعُ كثيراً بين الآباء والأبناء،وأعتقدُ أن ردمَها ليسَ بالسهولة التي يَظنها بعضُ السُّذَّج ممن يروْنَ وسيلة الخلاص في الضغط والقسوة الطافحة وإحكام الخناق بالمنع عنهم ومصادرة واقعهم لصالح واقعٍ متغير سابقٍ كان هنا منذ نصف قرنٍ على الأقل...!!!

ثم كلمة أخيرة لإخواني الآباء وأخواتي الأمهات إنْ صَدَقتْ فيهم العزيمة وأرادوا فعلاً تسريعَ رَدْم تلكَ الفجوة التي قد يلحظونـَها في علاقاتِهم بأجيالهم اللاحقة من أبنائهم وأحفادهم :

غيابُ ( الأسوة والمثل الأعلى ) في شخوصنا..وتصرفاتنا..وأقوالنا وأفعالنا..أراه سبباً أساسيا في تعميق تلك الفجوة وفي اتساع الجفوة فيها...

إن الأبناء سيستمعون إلينا..سيستأنسون بآرائنا وتوجيهاتنا وقراراتنا وأحكامنا..وسينقادون لنا-عن رغبةٍ وقناعةٍ واقتناع-فقط حين نكونُ أمامَهم مَرايَا صافية واضحةً،تشِعُّ بالوعي الراشد والالتزام القويم والحكمة السديدة والحب الغامر الدافق الحاني...

إن انكسار تلك المرآة،أو تشوهها من أهم الأسباب المباشرة التي تخلقُ الفجوة بيننا وبين أجيالنا النابتة...

ثم-أختي الكريمة-في قصةِ أنهم مندفعون وأنانيون...مَنْ قالَ فقط إن أجيالنا اللاحقة-الذين هم أبناؤنا وأحفادنا-أنانيون ومندفعون...؟؟!!!

لماذا فقط أجيالنا الصاعدة موْسومة ٌبالاندفاع والأنانية...؟؟!!!

لِمَ لا ننظر إلى الصورة في وجهها المقابل..؟؟؟ أليْسَ من الحيْفِ البيّْنِ أن يكونوا هم فقط أنانيين ومندفعين وننسى في معمعة الاتهام أن في الآباء أيضاً أنانية ًألعَنَ وأرْعَنَ..؟؟!!!!!

كثيرٌ من الآباء يَرى القذاة في عيْن ولدِه،وينسى جذعَ الشجرة الذي في عيْنه..!!!!

كثيرٌ من الآباء يريدون إلزاماً أن يعيشوا زمنهم وزمنَ غيرهم..!!!

بعض الآباء..وبعض الأمهات..يريدُ إلزاماً أن تمتد حياتـُه-التي عاشَ تفاصيلـَها في طفولته وشبابه-إلى طفولة أبنائه وأحفاده ومرحلة شبابهم..فيفرض مرحلته على مراحلهم،وإن عجزَ راحَ يُصادرُ مرحلتـَهم لصالح أنانيته وعشقه لذاته..!!!

شيءٌ يُشبه ( العشقَ النرجسي ) او ( الحِقدَ السَّمَكي ) اللذيْن حدثنا عنهما الفلاسفة والنفسانيون...!!!

بعضهم-للأسف-يريد أن تمتد مراهقته الفكرية والشعورية والجسدية إلى سن الخمسين والستين..!!!

فمهلاً آباءَنا الكرام...!!!

عشنا طفولتنا وشبابَنا-وللهِ الحمدُ والمِنَّة-واستمتعنا بما فيهما من نضارةٍ وحبور وابتسام وبما فيهما من دموع وأحزان..ولأولادنا طفولتهم وشبابهم..لأولادنا مراحِلـُهُمُ التي من حقهم علينا أن يَعيشوها بمعزلٍ عن أنانيتِنا وذاتيتِنا المُفرطة..!!!

فلنرفقْ بهم ولا داعي للمزاحمة..إنها واللهِ قمة الأنانية وتأليه الذات أن نوَدَّ أن نعيشَ زمننا وزمَنَ غيْرنا بهذه المزاحمةِ غيْر العادلةِ أو بترحيل متغيراتِ زمننا إلى حياةِ أجيالنا الصاعدة..!!!

أجيالنا القادمة هم الربيع القادم..ونحن-شئنا أم أبيْنا-الخريف الذاهب...وتلكَ سنة الحياة التي لن نجدَ لها حِوَلاً أو تبديلاَ..ويَجب علينا نحن الآباء أن نفهَم ذلكَ جيداً عن وعي عميق ورزانةٍ راشدة...

مشكورة أختي على الطرح..وشكرَ اللهُ الجميعَ ممن أدلى بدلوهِ النافع..ودمتم سالمين غانمين متألقين...
__________________
يَا رَبيعَ بَلـَـــــدِي الحبيب...
يا لوحة ًمزروعة ًفِي أقصَى الوريدِ جَمَـــالاً..!!


التعديل الأخير تم بواسطة يزيد فاضلي ; 25-12-2012 الساعة 02:02 PM
رد مع اقتباس