رحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل

[كمال عميره]

بدا صديقي الشاعر.....شاحب الوجه.....شارد الذهن....غائر النظرات....ولكنه كعادته دوما ممتطيا صهوة كتاب,سابحا في ملكوت قصيده , موغلا في بحر إحساسه الذي بلا شاطئ.
هو هكذا مذ عرفته سابحا في نهم المعرفة ,في الصباح والمساء , وفي جوف الليل...بهمة لا تفتر ولا تملّ أو تكلّ...
وكنت مولعا با لقراءة...مقبلا على قراءة المجلات والكتب ذات الطابع القصصي والترفيهي....شغوفا حدّ الوله...ببرامج التلفزيون....ومسلسلاته وأفلامه...وكانت الحياة بالنسبة لي...مجرد ساعة صفاء....
في ذلك الصباح إلتقينا صدفة...كما لم نكن نلتقي..فقد كانت جلّ لقاءاتنا تتم عبر مواعيد مسبقه....وإذا كانت باريس تمتهن حراسة العشاق على راي احلام مستغانمي...فقد كانت جيجل تخندق أحلامنا وتستنزف دماءنا بأيدي اولئك الذين يدّعون صداقتنا...
إنزوينا في مقهانا كجرذين صغيرين ضاع منهما العمر...إرتشفنا قهوتينا...والكثير الكثير من مآسينا....
تحدثنا بقلق وعصبية في كلّ الذي لا يجب التحدث فيه.....جلدنا عواطفنا........وأحلامنا........وضعنا خطة علمية دقيقة لإغتيال طموحاتنا....
قلنا , أن هذه المدينة لا تمتهن حراسة السراق فحسب.....بل تشجع العشاق على التناثر والإندثار كنقطة متحركة على مرمى ضجر...
سألته : "لماذا تكتب ؟؟؟؟؟؟"
قال :"لأبعد العار عن فكري "
ولماذا تحبّّ ؟؟
"-كي لا تطأ قدماي وحل المرحله.."
وأستوعبت بعمق.....................ووعي احزانه اللولبيه....وعجزت عن مواساته....ثم إفترقنا على أمل اللقاء....
عند الرابعة مساء...وأنا سابح في تهويماتي....رنّ هاتفي.....
- آلو......من معي ؟؟
-هل انت السيد كمال...؟؟
-أجل.....من المتكلم.....؟؟
-يؤسفنا إخبارك بتعرض صديقك الشاعر إلى حادث مرور....وهو الآن في غرفة العناية المركزة بالمستشفى....
لوهلة مضت.....بدائية......وطويلة.....ولا تقاس بالزمن......لم اصدق ما حدث....
ركبت على عجل.....لم تعد الاشياء واضحة.....ما له هذا الطريق اليوم طويل.....طويل ولا ينتهي.....وهذا الزحام البغيض......لماذا لا ينقشع..؟؟ وهذه الأرصفه.....ما لها لا تئن بحملها ؟؟
وكأن الزمن أصبح دقة قلق واحده......
دلفت باب المستشفى......هذه فضاعات العالم المتمدّن بين يديك.....وأمام ناظريك.....مريض يتأوه......مجروح ينزف......دماء ودموع......وعاملون يصارعون مشاعرهم......ونقص إمكانياتهم......منظر عجيب رهيب كنت في غفلة عنه....
إستعلمت.....صعدت درجات السلّم الذي أشّروه لي قفزا......"هو في غرفة العنايه المركزه "سآخذك إليه....ردت الممرضه......
وسط زحام الاطباء والممرضين.....وعبر النافذة الصغيرة في باب الغرفة.....أرى عينيّ صديقي......غائرتان.....وبلا حياة........هل هذا صمته الموحي ؟؟...هل هذه صفرة الموت التي تعلو محياه ؟؟
أم أنه الق وجهه الذي كان يشعّ كلما ترّنم اشعاره وألقاها في رحب الوجود.......
جلست على حافة سريره.......لامست يده......إنها بارده.....
وساقه..............هي ايضا بارده......
وعرفت كل شيئ.........ولم أعد أميز الاشياء....
....يا ألله........أين أنا....؟؟؟ وماذا يجري...؟؟؟
تذكرت.....وعرفت.....وأستوعبت.....وبكيت......ذرفت عيناي دموعا على كل ايامنا الضائعه....من شريط حياتنا الذي كان يتلّون كل مساء بضياع لا معنى له....
تذكرت....وبكيت.......وتساءلت................ماذا لو ربطتنا القداسة....؟؟؟
ماذا لو لملمتنا الفضاءات ؟؟
ماذا لو لم يتسع لنا كل هذا الحقد......؟؟
وأنتثرنا في فلذات التمني.....
لم ابحث عن الإجابة......تألمت بوفرة.....وتذكرت اوسكار وايلد :" عندي أن كل كلمة صادقة...يجب أن تصبح دينا..."
أحسست بطمأنينة ......وسكينة......وعزاء....وأنا أردد :"لا شيئ يبقى............كلّ إلى فناء...................إنما هي اعمالكم..........."

دعوة...." ايها الشعراء...............إن اردتم أن تكتبوا برحيق الاعماق...........إذهبوا إلى هناك..........................إلى غرف العنايه المركزه بمستشفياتكم.......لتعرفوا حقا.................ثمن عذابكم الإنساني......."

جيجل....ذات وجع