كرّست ثقافة الإخراج والتمثيل وتأثيث الخشبة
مقاربات انطباعية لأيام الشارقة المسرحية
أبوظبي - منّي بونعامة:
اتسمت العروض التي جرت خلال أيام الشارقة المسرحية على مدى أحد عشر يوماً بالتنوع والغنى، حيث ناقشت العديد من القضايا المرتبطة بواقع الإنسان، سواء في بعدها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، وغاصت في أعماق المجتمع، فالتقطت صوراً واستحضرت قيماً ومثلاً حاولت تمريرها من على خشبة المسرح لتتناسق ورسالته الرائدة في إذكاء جذوة وعي الشعوب وتثقيفها، وفوق ذلك عززت هذه العروض من ثقافة المسرح التي تشمل مهارات التمثيل والإخراج والإضاءة والسينوغرافيا وكل ما من شأنه تأثيث خشبة المسرح .
الإنسان وما يعانيه من هموم وغموم، وما يكابده من مشاق، وما يحسه من آلام، وما يتطلع إليه من آمال وأحلام كان موضوعاً دسماً للعروض المقدمة، حيث ألقت مسرحية “سيد القبو” أضواء كاشفةً على الكثير من القيم الإنسانية والأخلاقية التي استعرضتها بصيغ مختلفة وفي مشاهد متنوعة تعزف على وتر كرامة الإنسان التي يجب عليه أن يحافظ عليها، وينأى بنفسه عما يتنافى مع ذلك، وألا يرتمي في أحضان الصفات السلبية والمهن القذرة التي تدنّس عرضه وكرامته ومكانته في وسطه الاجتماعي .
الفكرة التي تعالجها المسرحية تسعى إلى نبذ مهنة التسول القذرة التي تسيء إلى سمعة الإنسان وكرامته، واستغلال الأطفال في هذه المهنة للحصول على مكاسب مادية، ومنافع شخصية يحصل عليها “سيد القبو” مقابل ذلك، وهو نوع من الاتجار بالبشر واستغلال جهدهم وطاقتهم في أغراض سلبية تقوم على المنفعة الذاتية التي تلغي معنى الإنسانية في الإنسان، وحقه في العيش بكرامة بين الناس، كما استعادت المسرحية الصراع الأزلي بين الخير والشر، وهو صراع يظل في تجاذب دائم طيلة مشاهد المسرحية حتى يطغى الخير على الشر في نهاية المطاف، ويتحول “سيد القبو” إلى رجل أخلاقي وإنساني يحنو على الأطفال الذين كان يستغلهم في التسوّل، ويسعى إلى إنقاذهم من خطر أكبر .
المعاني الإنسانية النبيلة التي طفحت بها المسرحية استعادت دور المسرح في التعبير عن هموم الإنسانية ورغباتها ونزواتها، وما يخالف أو يوافق قيم المجتمع، سلباً أو ايجاباً، نقداً وتوجيهاً، وهي مزية احتفظت بها كذلك جل العروض المقدمة مع اختلاف بيّن في المعالجات والقضايا المعروضة .
وبالطبع هذه مقاربات انطباعية لبعض العروض التي استقطبت جمهوراً لافتاً هو في النهاية له ثقافة المسرحية، فقد أضاءت مسرحية “زيت وورق” جزءاً مهماً من أزلية وجود الشر على الأرض، فحيثما وجد الإنسان فسيوجد شر، وطمع، وأنانية، وصراع بين الخير والشر، وقد عالج العرض هذه القضية بطريقة تبسيطية يراد من خلالها ايصال الفكرة الأساس بسهولة ويسر بعيداً عن التعقيدات الفلسفية والمعرفية، وبأسلوب قريب من المتلقي .
ويشترك هذا العمل مع العمل السابق من حيث ارتكازه على فكرة الخير والشر التي تمت معالجتها في كليهما لكن بطريقة وأسلوب مختلفين، كما طغت على بعض العروض الأخرى معالجة بعض الخصال السيئة أو الصفات السلبية مثل الجشع والطمع وحب السلطة والتسلط، والتسلق للوصول إلى المناصب العليا، وتباين فرص الحياة وتناقضاتها ما يكشف عورات الواقع بما يضج به من مفارقات مربكة ومحيرة لا تنبني في الأغلب على منطق سليم .
عروض كثيرة مثل “طوفان”، و”مشاجرة رباعية”، و”نهارات علول” غاصت في الواقع واستحضرت صوراً عديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية الراهنة، محاولة تقويم المعوج، والتعبير عن مكمن الخلل والنقص، ناقدة ما ينطوي عليه من تناقض .
إن القضايا التي ركزت العروض المسرحية السابقة على مناقشتها ومعالجتها تعبّر بجلاء عن مدى ارتباط المسرحي بواقعه .
لكن إلى جانب أهمية حضور العرض المسرحي والتفاعل معه بصرياً وفكرياً ونقدياً، نشير إلى الثقافة المسرحية العامة التي تعززها وتكرسها “الأيام” من دورة إلى أخرى، وإذا كانت موضوعات المسرحيات قد تتشابه من عام إلى آخر، فإن المعالجات المسرحية تختلف، الإخراج المسرحي الإماراتي يكتسب مهارات واقتراحات جديدة، السينوغرافيا المسرحية تتغير وتذهب إلى التعبير عن جوهر العمل المسرحي، الممثل نفسه يتغير من عام إلى آخر، ومن عرض إلى آخر باتجاه نضجه الفني الذي يتراكم مع الأيام .
جريدة الخليج