سلطة الخطاب والهوى في (عبد الفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل)
عائشة الدرمكي
" إن الخطاب شيء بين الأشياء ، وهو ككل الأشياء موضوع صراع من أجل الحصول على السلطة..." ، هو إذن ليس انعكاساً للصراع أو من أجله ، بل هو مدار يشكل نص يستثمر الرغبة ليمثل مدار الرغبة والسلطة ، لذلك فكما يعتقد فوكو فإن الخطاب لم يكن موضوع سلطة بل المدار الحاسم لها . والسلطة هنا تعتمد على مدى هيمنة الخطاب على النص بشكل داخلي أولاً ، ثم هيمنته على نظام التواصل داخلياً وخارجياً ثانياً ؛ ولذلك فإن الخطاب هو استراتيجية التلفظ ، أو نظام مرَّكب من الأنظمة التوجيهية والتركيبية والدلالية والوظيفية النفعية التي تتوازى وتتقاطع جزئياً أو كلياً فيما بينها ؛ فالإنسان يتقابل وجهاً لوجه مع خطابه كونه كائناً خارجياً مستقلاً لا يخضع إلاَّ لقواعد وجوده الموضوعية. ولما كان للخطاب سلطة اجتماعية وسياسية ونفسية ، يشعر بها أفراد المجتمع في مجتمعاتهم كلها من خلال الواقع المعاش؛ فإن الخطاب سنجده مختزلاً في النصوص الأدبية على أنواعها وأشكالها المتعددة ، التي تحرص أن تستقي خطاباتها من المجتمع ومؤسساته التي تتولى مهمة إعداد شروط إنتاجه وتداوله ، لتقوم هذه النصوص بعد ذلك بمهمة توظيف هذه الخطابات في مجتمع جديد تمثله سياقات النص وعلاماته ورموزه .
ولأن للخطاب سلطة ضمن السياق الفضائي للنص عامة وللنص الأدبي خاصة – بحكم أننا سنخصص الحديث عنه - فإنه سيُكسب المادة الدلالية تمفصلاتها الأولى ، لتكون في شكل علامات قابلة للتأويل ، ليشكل بهذا فضاءً واسعاً يتهيأ من أجل تعيين هيئة ووساطة لعلامات ورموز النص لتتمتع بكيان مستقل ، تتبلور فيه التمفصلات التكميلية للعلامات ؛ ولذلك فإن السيميائية لا تعني دراسة العلامات المتمثلة في مستوى التمظهر اللساني أو التشكيلي أو الموسيقي أو البصري فحسب بل لكل ذلك ولكل ما هو ضمني فيها ، على أن الخطاب هنا "...يكتسب أهميته من (السيميم) نفسه الذي يشكل العلامات الخطابية..." . وضمن هذه المجالات الواسعة للسيميائية سندرس هنا تلك السلطة الهووية التي تسيطر على خطاب النص ، وتهيمن على الذات الفاعلة والذوات السردية المقابلة لها ضمن السيمات النووية التي تشكل الصور وتحيل إلى تصور خارجي للعالم ؛ فـ "... تنظيم هذه السيمات النووية في صور تعطي المجال لوحدات مضمونة مستقرة محددة بنواة دائمة تتحقق افتراضاتها بتنوعها حسب السياقات..." ، على أن تلك الصور ترتبط بالواقع المجتمعي من ناحية والمخيال من ناحية أخرى الذي يتصل بالإدراك قبل كل شيء فـ " الصور تُكلَّم قبل أن تُرى"
يعتبر الخطاب هنا بمثابة حدث ، أي أن شيئاً ما يحدث عندما يتكلم أحدنا ، وتفرض هذه النظرية ، نظرية الخطاب كحدث ، نفسها بمجرد ما نأخذ بعين الاعتبار العبور من لسانيات الكلام أو الرموز ، إلى لسانيات الخطاب أو الإرسالية . ومصدر التمييز ، هو فردناند دوسوسير ولوي يلمسليف ، يميز الأول بين اللغة والكلام ، والثاني بين التصور والاستعمال ، بينما يذهب اللساني الفرنسي إميل بنفنيست إلى أن لسانيات الخطاب ولسانيات اللغة تنهض على وحدات مختلفة ؛ فإذا "كانت العلامة (الصوتية والمعجمية) وحدة أساس اللغة فإن الـ(الجملة) هي وحدة أساس الخطاب ؛ ولذلك فإن لسانيات الجملة هي التي تدعم جدل الحدث والمعنى ، الذي تنطلق منه نظريتنا (نظرية النص) " ، ولذلك فإنه لا يمكن الاكتفاء بالمستوى السطحي في التحليل بل يجب التركيز على الشبكة التركيبية للنص السردي بوصفها قادرة على اختيار اللكسيمات القيمية ، لذلك يظهر اللكسيم -كونه موضوعاً لسانياً- "... كمجموعة من الافتراضات التي لا تتحقق تحقيقاتها المحتملة إلاَّ بفضل مسارات تركيبية تنعقد أثناء التمظهر الخطابي" . وعلى ذلك يتم الانتقال من الصور اللكسيمية الخاصة إلى مستوى أعلى للتشكيلات الخطابية متمثل في هيمنتها على النظام السردي للنص داخلياً ثم إسقاط تلك الهيمنة خارج النص .
عليه فإن الخطاب هنا حدث ما ، وهذا يعني أنه قد تحقق زمنياً وفي الحاضر ، في حين أن نسق اللغة مضمر وخارج الزمن ؛ بهذا المعنى يمكن لنا أن نتحدث مع بنفنيست عن (إلحاح الخطاب) على تحديد ظهور الخطاب نفسه كحدث . وفضلاً عن ذلك ، بينما لا توجد للغة ذاتٌ بمعنى أن سؤال (من يتكلم؟) لا يليق بهذا المستوى ، يحيل الخطاب على متكلمه عن طريق مجموعة مركبة من المؤشرات كالضمائر سنقول في هذا الاتجاه أن للخطاب مرجعية ؛ فخاصية الحدث ترتبط الآن بشخص المتكلم ، والحدث يكمن في كون أحد ما يتكلم ، أحد ما يعبِّر بأخذ الكلمة . والخطاب بوصفه حدثاً تحيل فيه علامات الكلام على علامات أخرى داخل النسق نفسه ، ويكون الخطاب دائماً على علم بشئ ما يرجع إلى عالم ينوي وصفه ، التعبير عنه أو تصويره ، ويكون الحدث هو المجئ إلى كلام عالم ما عن طريق الخطاب ، وأخيراً بينما لا تكون اللغة سوى شرط أولي لتواصل يقدم له العالم رموزه يكون الخطاب مكمن تبادل كل الإرساليات ؛ بهذا المعنى ليس للخطاب عالم فحسب بل عالم شخص آخر ، مخاطب موجَّه إليه ، والحدث بهذا المعنى الأخير هو ظاهرة التبادل الزمنية (بناء الحوار) ، الذي يمكن أن يُعقد ، أن يطول أو أن يقاطع . كل هذه السمات مجتمعة تجعل من الخطاب حدثاً ، ومن الملحوظ أنها لا تظهر إلاَّ في حركة إنجاز الكلام في الخطاب ، في تفعيل قدرتنا اللسانية في الإنجاز ؛ كل ذلك سيحيلنا إلى هيمنة الخطاب – بوصفه حدثاً - على الذات المتكلمة من ناحية والمتلقية من ناحية أخرى .
وعلى ذلك فإن الخطاب هنا هو حالة من حالات التحوُّل المستمرة يكون (الفعل) أي فعل الخطاب هو الحلقة التي يدور في مركزها الخطاب كله ، فهذا الفعل يمثل القوة التي تحرك الذوات والأحداث بوصفه يملك طاقة مهيمنة أو مسيطرة على الخطاب ؛ وعليه فهوى الذات يُمكن أن يكون حصيلة فعل ما داخل النص ، ليس هذا فحسب بل "...إن الهوى ذاته ، الذي يبدو باعتباره خطاباً من درجة ثانية مودعاً في الخطاب ، يمكن أن يكون في الوقت ذاته فعلاً ..." ، فهذا الهوى (الفعلي) يرتبط ارتباطاً مباشراً بالذات الفاعلة التي تسعى بطريقة واعية أو غير واعية عن طريقه إلى الهيمنة أو السيطرة على فعل الخطاب عامة .
الخطاب إذن هو الذي يستدعي تلك السيرورة السردية المعقدة ، المتعلقة بتشخيص الأشياء للذات الذي يبدأ بالانزياح بين ما يقال وما يُشعر به ، والقول المستمر بالتدوين في الحرف والمنتهي في الترميزات المركبَّة لآثار هذا الخطاب القولي والهووي ، وهذا التشخيص لا يجعل الفهم الذي يوسطه الشرح ممكناً فقط بل ضروري ؛ ذلك لأن على مستوى تشخيص الأشياء تتجلى لنا تلك الأهواء حاملة لآثار معنوية نفسية خاصة بالذوات من ناحية وبالسيرورة السردية من ناحية أخرى ، بل وبالمجتمعية من ناحية ثالثة، لينشأ عن ذلك كيفية خاصة بخطاب كل نص على حدة ، لتمثل استقلالية الخطاب هنا - كما لاحظ ديلتاي ذلك - واحداً من أكثر شروط وضعنة الخطاب أصالة ؛" ... فالنص نسيج من الكلمات يترابط بعضه ببعض كالخيوط التي تجمع عناصر الشيء المتباعدة في كيان كلي متماسك..." .
وبافتراض أن هناك قصدية إبلاغية لخطاب الهيمنة في النص الأدبي تدفعه إلى البحث عن الدروب الملتوية التي تسلكها معاني الأشياء والممارسات ودلالاتها ، خصوصاً أن الذات لا تختفي لتُحِّل الخطاب وحده محلها ، "بل لتُحِّل الممارسة الاجتماعية المركبة محلها ومن ضمنها الممارسة الخطابية ، ومن ضمنها أيضاً الفرد الحديث كونه فاعل ونتاج لمجمل تلك الممارسات" ، وهذا ما يكشف عنه ما يسمى بـ (العلاقة المرجعية) ؛ وهذه الوظيفة المرجعية تعتبر مهمة لأنها توازن بشكل ما خاصية كلام أخرى ، هي خاصية الفصل بين العلامات والأشياء ؛ فالكلام بالوظيفة المرجعية ينقل للكون – بحسب تعبير غوستاف غيُّوم – تلك العلامات التي جعلتها الوظيفة الرمزية في ميلادها غائبة عن الأشياء ؛ فكل خطاب مرتبط بدرجة ما بالعالم الواقعي الذي يقع تحت سلطته خطاب النص بذواته وأحداثه وسيروته .
وعلى ذلك فإن هذا البحث سيكون محوره الخطاب وسلطته داخل منظومة النص من خلال التأويلات المتعددة للسانيات الخطاب باتباع سيميائيات الأهواء وتحليل الخطاب ، وذلك بالتطبيق على المجموعة القصصية المعنونة بـ (عبد الفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل) للكاتب العماني سليمان المعمري ، على أن يكون البحث من ثلاثة مباحث هي :
الأول : الإنتاجات الرمزية كونها أدوات هيمنة
الإنتاجات اللونية
للسيميائيات في الثقافة الحديثة مكانة مميزة من حيث أنها تشكل أهمية كبرى في المشهد الفكري المعاصر ، فهي نشاط معرفي خاص بأصوله وامتداداته ومردوديته وأساليبه التخيلية ؛ فهي علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا ، وعلى ذلك فإنها تعتبر أداة لقراءة كل مظاهر السلوك الإنساني بدءاً من الانفعالات البسيطة ومروراً بالطقوس الاجتماعية وانتهاء بالأنساق الإيديولوجية الكبرى .
ومن بين ما تهتم به السيميائيات (الألوان) كونها تشكل حيزاً مهماً في حياة الإنسان ؛ فهي علامات لها دلالاتها وتأويلاتها ، ولذلك فإن النصوص عامة والنصوص الأدبية خاصة اهتمت بهذه العلامات ، بوصفها عنصر من عناصر التشكيل السيميائي للنص أولاً وعنصر من عناصر التشكيل الجمالي ثانياً ؛ فالألوان تشكل مادة خصبة لبناء النص ومادة خصبة لفهم النص وتحليله وتأويله ؛ فهي إحساس يؤثر في العين ويعكس إحالات نفسية مهمة .
إن الألوان بوصفها تغييرات في الشدة الضوئية الخاصة بالمواقع فإنها "تولد القيم بالمعنى التصويري (Pictural) للكلمة " ، ولذلك فإن الموقع الضوئي يرتئي منطقة فضاء معينة تجعل منه دالاً على مجموعة من الدلالات الخاصة بسياقات نصية معينة ؛ فنص (الأبيض والأسود) يطالعنا منذ عنوانه بوهج الألوان وهيمنتها على الخطاب ، إذ يقدم لنا إنتاجاً لونياً خاصاً متجانساً مع الجسد الذاتي من ناحية ، ومع الدلالات الموسوعية من ناحية أخرى ؛ فـ : " عندما رأى عبد الفتاح المنغلق فتاته ترفل في الأسود ، لم يفكر قط أن ابتسامتها بيضاء .. فكر فقط في قتل معلمه في الابتدائية الذي أدخل في رأسه أن الأسود لون شرير .. دار في خلده وهو يتأمل بياض عينيها أن علاقته بالأبيض لم تكن سيئة قبل اضطراره اليومي للذهاب إلى مقر عمله أبيض بكثير من السوء .ألهذا إذاً بات لا يشرب الحليب إلاَّ إذا مزَّق بياضه الشايُ؟!.. الأبيض بالإكراه ليس سوى أسود ، تمتم في سِّره لئلا تسمعه جدران مكتبه البيض".
فالذات هنا رائية للسواد والبياض متلقية للون (الموضوع) المتمثل في علامات عدة ضمن سياقات مختلفة ، ويمكننا هذا النص من إيجاد تلك الهوة التي تجعل من التأويلات الخاصة باللون متضاربة بحيث تبدو متناقضة تماماً ، وهو أمر قد يعكس تلك المسافة بين الداخل (اللون) والخارج (الذات الرائية) ؛ إذ يقدم لنا النص اللون الأسود بوصفه علامة متجسداً في اللباس وهي المادة التي تحوِّل اللون من موضوع إلى علامة ذات تأويل مباشر تماماً يقدمه لنا النص صراحة في "... تذكَّر فتاته وهي تبرر سوادها في لقاء الأمس، وهو التبرير الذي يتلخص في أن رجلاً من أهلها مات في ازدحام شديد...".
هو إذن تأويل مباشر يقدمه النص ليكشف عن قيمة العلامة (اللون + الجسد) في الانتماء المزدوج بين نظام الموضوع (اللون)، ونظام الذات (الجسد) ، ليصبح الجسد متمظهراً باللون كونه علامة تم التوافق على دلالاتها مسبقاً . فالنص يُنتج بذلك هيمنة فعلية على المتلقي في إسقاط ذلك التأويل على النص صراحة ، فيقدم تأويله الموسوعي خشية تأويل مفاجئ من قِبل المتلقي .
هذه الهيمنة التي يحاول النص إسقاطها على المتلقي حيال اللون الأسود (الموضوع والعلامة) ، هي نفسها يطالعنا بها في تصوره للون الأبيض (الموضوع) بوصفه مقابلاً للون الأسود (الموضوع) ، ليجعله ضمن تمظهرات ذاتية ومادية تكشف عن علامات خاصة به ؛ وإذا ما تتبعنا هذه العلامات فإننا سنجد أنها تأخذ إنتاجات عدة :
أولاً : الأبيض + الأسنان = ابتسامة
ثانياً : الأبيض + العين = جمال
ثالثاً: الأبيض + اللباس = سوء
رابعاً : الأبيض (الحليب) + الأسود ( الشاي) = شراب مستحب
إن هذه الإنتاجات التي يقدمها لنا النص تجعل من (اللون / الموضوع) ليس خالصاً كما يراه الرائي ؛ هو مرة يجعله ذا تأويلات مرتبطة باللكسيم (الأسنان ، أو العين) ، وهذا الارتباط إنما يعكس موسوعياً حالة من حالة التمظهر الجمالي ، بينما يكون خلاف ذلك عندما يرتبط باللكسيم (الجسد) ، ليقرر أنه لابد في تمظهرات مادية أخرى تبديد بياض (الموضوع) الحليب (العلامة) بموضوع مقابل له هو (السواد) .
ليقرر النص في النهاية أن (الأبيض بالإكراه ليس سوى أسود) ، وهو تمظهر لا يكون في الحالات الأولى التي تنتج موسوعياً (الابتسام ، أو الجمال) ، وإنما في حالات قد تنتج سوءاً كما يعتقد الرائي ، وهنا ينفتح النص على تلك العلاقة التي تربط ما بين السيميم (البياض بوصفه كائناً) وبين الفضاء الذي يحيط بالذات التي تنتج تلك العلامات المتمظهرة في البياض الفضائي الذي يحيط به فيقرر أن يتمتم (في سره لئلا تسمعه جدران مكتبه البيض).
هكذا سيجتمع اللونان (الموضوع) الأسود والأبيض في النتيجة والدلالة التي تحيل إلى حالة نفسية للذات الرائية ؛ إذ يكوِّنان معاً فضاءً حيوياً من الناحية العاطفية ففي قول المعمري : "... (سندريلا مان) عنوان مخيب لآمال عبد الفتاح الذي كان يفضل فلماً بالأبيض والأسود ، لكنه علل نفسه بأنه ربما يكون فيلماً مناسباً للمرحلة ..." ، وعليه فإن اللون (الموضوع) هنا لن تكون له دلالة في ذاته بل بما يحيل إليه من نوعية مادة تكون بصرياً باللونين (الأسود والأبيض) ، فهما ليسا سلطة مطلقة من الناحية الدلالية وإنما من الناحية البصرية المحضة .
ثم يطالعنا اللونان بشكل فضائي بحت ؛ حيث يشكل أحدهما لوناً للفراغ بينما يشكل الآخر لوناً للكسيم (الأسنان) ؛ فـ :"... في منتصف الفيلم أظلمت الشاشة إيذاناً باستراحة قصيرة .. نظر عبد الفتاح إلى فَتاته فانذهل حين رأى أسنانها البيض .. خطر بباله أن المكان أسود وأن ضحكتها هي الأبيض الوحيد ، كأنها نجمة يتيمة في ليل بهيم ..." ، نجد أن الأسود (الموضوع) سيمثل لوناً للفضاء الخارجي الذي يجمع الذات والآخر والمحيط المكاني حولهما ، ليشكل البياض (الموضوع) لوناً لأسنان الفتاة المحبوبة يحيل إلى ظلمة المكان في الفراغ الخارجي ، ليصوره بأنه (نجمة يتيمة في ليل بهيم) وهي صورة أخرى للبياض والسواد في تصوير الفضاء واللكسيم ، على أنه ليس بالضرورة أن تكون (النجمة) ذات لون أبيض ! إنما هو انعكاس للبريق.
إن خطاب البياض والسواد بوصفهما موضوعان لا يسيطر على الذوات فحسب بل وعلى الفضاء الزماني والمكاني في النص ففي قوله : "... امتعض عبد الفتاح وغادر المكان بسرعة سنجاب مذعور ، تاركاً فَتاته ترفل في الأسود .. وفُتاته أيضاً "، الذي يمثل الخطاب الأخير في النص ، سنجد أن فلسفة السواد والبياض في فضاء حياة الذات (عبد الفتاح) تسيطر عليه نفسياً حتى ليبدو المشهد مفعماً بهما معاً ليكون الفضاء الأخير (سواد) متمثل في لباس الفتاة المحبوبة ، و(بياض) متمثل في فُتات الفُشار. إنهما جزء من الذات أحدهما معنوي والآخر مادي لكنه تخلى عنهما معاً على الرغم من سطوتهما عليه منذ بداية النص !
بينما يطالعنا نص (حرية شخصية) بثلاثية لونية ستهيمن على الخطاب ، وستشكل الذات شخصية المبئِّر الذي يرصد بؤرة الفضاء النصي الذي يحوي العلامات اللونية ففي :" لا يهمني أن ينظر إليَّ بتلك العينين الشريرتين .. التحديق في الزرقة الأخاذة حرية شخصية ، ثم إنه حتى الأعمى سيلاحظ بلا شك أنها هي التي تحدِّق في شاربي .
هي : زرقة مؤطرة بالسواد الضروري لحراسة البياض من الرماديين .
هو : عينان من شرٍّ ترشقان المشهد بعناصر الخراب .
أنا : تيه ممزَّقٌ بين زُرقتها وصُفرته . تيه يُسمونه : عبد الفتاح المنغلق !"
الخطاب هنا يجعل من الأسود بوصفه علامة مظهراً بصرياً خارجياً ، بينما البياض مظهراً غير مرئي بصرياً ، ويجعل من (الرمادي) علامة هائمة غير مؤطرة ، ثم إنه سيجعل من الصفرة بوصفها نظير إشاري مؤول من (شرر العينين) . تسيطر هنا الفاعلية الحسية الإبلاغية على خطاب التجلي التي تتعلق بتوترية مقام ذات الإدراك الحسي ، فالصدع الشعوري الذي يصوره المبئِّر في هذا الخطاب إنما هو محاولة لتجسيد العلامات اللونية وإسقاط التوترية التي تكشف عن نشاط حسي ذاتي تحكمه الحسية والذوق في التلقي .
إن النقل الشعوري الذي يقدمه المبئِّر في هذا النص إنما يعبر عن توتر شعوري محض ولا يفترض هذا النقل تفعيل تلك العلامات اللونية إلاَّ لزيادة حدة التوتر الذي يؤثر لاحقاً على السلوك وبالتالي الحدث . إننا إذن أمام مدى (التقبلية الذاتية) الفاعلة التي سـ"تشارك في انبثاق بنى القوى الفاعلة ..." ، التي ستسيطر خلال لونيتها على خطاب النص وبالتالي على الذات المبئِّرة ، فالشعور الذي سيحيله السواد والزرقة في نفس المبئِّر سيحيل الذات (المرأة) إلى موضوع ، وبالتالي سيصبح الإدراك الحسي الجمالي هنا ذا ثلاثة أبعاد تركيبية هي :
أولاً : الإدراك الحسي الانعكاسي ؛ الذي يتمثل في تلك العلاقة التي تربط بين الذات (المرأة) وجسدها المتمثل في التأطير (الأسود) واللكسيم (الزرقة) .
ثانياً : الإدراك الحسي المتعدي ؛ الذي يتمثل في العلاقة التي تربط بين الذات والموضوع اللوني عامة .
ثالثاً : الإدراك الحسي التبادلي ؛ وهو الذي سيوطد العلاقة بين الذات من ناحية والمبئِّر من ناحية مقابلة .
فالمبئِّر هنا يعمد إلى وصف الذات بقوله : إن "... هذه المرأة الوارفة الزُرقة ، المسيجة بالسواد ، وحيدةُ كبحر هجره المصطافون ، وما الابتسامة سوى حيلة للتملص من الهواء المثقل برائحة العزلة . ربما كانت عاشقة ، وهذا ما يفسر نظرتها التائهة . لكنها العزلة . أيكون حبيبها من التقط الصورة ؟!...". إذن هي محاولة منه للوصول إلى حالة من الإدراك الحسي التبادلي بعد أن فصَّل محاولته لإدراك تلك المستويات من الأبعاد التركيبية التي تربط اللون (الموضوع) بـ (الذات) .
إن النقل الشعوري الذي يتقنه المبئِّر هنا يعتمد على تبدلات علاقات القوى المؤثرة في جسد ذات الإدراك ضمن الفضاء التوتري العام الذي يُغمس فيه نفسه ، فالمستوى التوتري الذي سيعتمد عليه مؤلف من إدراكات حسية لفهم مستوى التعبير ضمن تماسك التعبير والمضمون أو تناقضهما أو تفرقهما ، لنجده يعبِّر عن ذلك بقوله: "... وصاحب العينين الشريرتين يحاول اقتناصي . أيكون حبيبها ؟! . لا أظن ذلك ، وجهه يوحي بأنه خارج للتو من سجن في كهف ، ولا زرقة في الكهوف . لعل مأمور السجن هو من التقط الصورة كإجراء روتيني قبل الإفراج . ولكن ما الذي يجمع صورتين متناقضتين في صحيفة صفراء واحدة ، وفي مكانين متجاورين؟!...". إنه رهان على لون (الزرقة) الذي يعتمد عليه للتخلص من التوترية الحسية التي تسيطر عليه ضمن خطاب بصري فضائي ، ليساعده على إقامة توازن حسي بين الذوات .
إنه إذن فضاء توتري على مستوٍ عالٍ إذ تسيطر العلامات اللونية سيطرة كاملة على الذات المبئِّرة ضمن فضاءات متعددة ، ستجعل من تلك العلامات توترات أولية ، متولدة بشكل قصدي نحو المبئِّر الذي سوف يكون متبوعاً لا تابعاً لها ، هي توترات مؤسسة عاطفياً بحيث ينشغل بها المبئِّر بوصفها إدراكات حسية ثم تنتقل إلى شكلها المهيمن على الاتساق الخطابي ليس للنص الفضائي فحسب بل حتى لنص (الحلم) ففي:"... يا إلهي . إنها بلاد تحترف الشتم بالعيون . ولكني لن أعتذر . سأكتفي بمغادرة المقهى وترك الصحيفة مكانها . أن أرى امرأة زرقاء ورجلاً شريراً في صحيفة ، ثم في مقهى ، ثم في أحلامي – إن شئتُ – هي محض حرية شخصية"، وفي نهاية هذا الخطاب التوتري سنجد أنه يتحد مع الذات المبئِّرة ليشكل معيار قيمة ضمن هذه المبادلات المهينة بينه وبين تلك العلامات اللونية .
الإنتاجات الحركية
للحركة في خطاب هذا النص هيمنة رمزية من حيث أنها تسيطر على فعل الخطاب وبالتالي على الذات الفاعلة التي تجعل من الفعل حالة من حالات التجلي الخطابية ؛ ففي نص (عطْس) نجد أن الفعل (عَطَس) يهيمن على الخطاب من ناحية وعلى الذات من ناحية أخرى ليتشكل من الفعل (كون خطابي) يدور فيه وضمنه ، لتنشطر الذات إلى ذات فعلية وذات حالة مصطنعة ؛ فـ" عندما أصاب عبد الفتاح المنغلق نزلة زكام حادة حمد الله أن لم يخلقه دجاجة . ولأن عبد الفتاح انتهازي كبير فقد قرر أن يستغل زكامه الاستغلال الأمثل . أولاً ؛ ذهب إلى مديره وعطس في وجهه ، فقرر الأخير منحه إجازة لمدة أسبوع . وهو يخرج من المكتب فكَّر أن اللحظة المناسبة قد حانت لمصالحة حبيبته التي هجرته منذ أسبوع لنسيانه عيد ميلادها ، فقد سمعها ذات مرة تقول ؛ إن الرجال حين يمرضون يثيرون الشفقة...".
في هذا الخطاب يسيطر الفعل رمزياً على سياق التكييفات الدلالية للفعل (عطس) ليصبح عبارة عن كتلة انفعالية تتلقى تحولات سياقية وحركية ؛ إذ يتحكم فعل الحركة ليس فقط على الذات الفاعلة بل حتى على الذوات المتواصلة معها سردياً ، وفي سبيل الوصول إلى حالة من التعايش والتعاضد مع هذا الفعل تلجأ الذات إلى إسقاط تمثيل عاملي وكيفي مركَّب يسعى إلى إكساب فعل الحركة هيمنة أوسع وأكثر شمولية . وهذه المحاولات لن تقف عند حد الآخر ضمن الإطار المجتمعي القريب (مدير العمل ، المحبوبة) بل سيتسع بعد ذلك ليشمل الفضاء الأوسع للأفق (الشارع) ؛ فهذه الحركة سوف تسيطر على الذات الفاعلة لا واعياً ضمن متغيرات السياق وتطورات الحركة " ... فقد كان يفصله عن الاصطدام بالسيارة التي أمامه عطسة صغيرة . فكر عبد الفتاح وهو ينظر إلى سائق السيارة المصدومة يشوِّح بيديه بطريقة غاضبة من خلف زجاج النافذة أن العين بحاجة إلى مراس لكيلا تنغلق أثناء العطس..." .
إن الفعل الحركى هنا يمثل تفاعلاً عاملياً بحيث يُوجد تواصلاً ليس بين الذوات فحسب بل بينه وبين أعضاء الجسد ، ولنقل تجاوزاً بينه وبين نفسه ، فالحركة التي تنشأ من فعل (العطس) هي حركة تتبعها حركة أخرى مقابلة ، ولذلك فإن الذات هنا ستنشغل بفعل الحركة بحكم تلك الهيمنة الفكرية والنفسية ؛ فقد "... قرأ المنغلق في إحدى الصحف أن العين هي العضو الوحيد في جسم الإنسان الذي لا يمكن أن يبقى مفتوحاً أثناء العطس..." ، ليشكل هنا الفعل امتداداً كيفياً للحركة ، وهو محاولة للربط بين إرادة الفعل والقدرة على فعله ؛ فـ " ... منذ ذلك اليوم وعبد الفتاح لم ييأس بعدُ من أنه قادر على إثبات العكس ...".
ولأن الخطاب يصف الحركة بأنها (طريقة في الفعل) ، فإن إرادة القيام به تشتمل على فائض كيفي يبدو في السطح على شكل تكثييف فعلي للحركة ضمن اللاواعي ، وهي بذلك طريقة في الكينونة (مكثف + بدئي) ، تستند لا واعياً على الربط بين الإرادة والقدرة ؛ فـ " ... عندما واتته العطسة حمد الله وأثنى عليه ... لكنه سرعان ما وبخ نفسه لأنه نسي فأغمض عينيه . (في المرة المقبلة لن أنسى) ..." ، لينتج عن ذلك تكييفات تتمحور ضمن استحالة الفعل وهي :
أولاً: معرفة عدم الكينونة ؛ يتحقق عندما تعرف الذات بأنها منفصلة عن موضوع القدرة .
ثانياً: عدم القدرة على الكينونة ؛ عندما يكون النجاح فعل الوصول إلى التوازن بين حركة (عطس) وحركة (اغماض العين) مشكوك فيه .
ثالثاً: إرداة الكينونة ؛ عندما تصر الذات على تحقيق ذلك التوازن بين أفعال الحركة .
وهكذا سيتحوَّل هذا التكثييف في الكينونة إلى هاجس توتري لدى الذات ؛ إذ "... حلم أنه يعطس كثيراً بعينين مفتوحتين على العالم وجميع أشيائه الحية والميتة ..." ، وعليه فإن توقع ظهور متزامن ومتعاضد للإرادة والقدرة لا يمكن أن يتم إلاَّ عبر فعل الحركة (عطس) الذي هيمن على سياق الخطاب وتكثيفه .
|