عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 24-04-2013, 11:06 PM
الصورة الرمزية محمد الراسبي
محمد الراسبي محمد الراسبي غير متواجد حالياً
مدير الموقع
 
تاريخ التسجيل: Dec 2007
المشاركات: 1,754

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى محمد الراسبي إرسال رسالة عبر Yahoo إلى محمد الراسبي
افتراضي

المكان في الرواية العمانية الحديثة
– المفهوم والدلالة والتأويل-
للكاتبة د. عزيزة الطائي
5/1 المقدمة


يحتل المكان حيزا مهما في الدراسات السردية، حتى عَّد مع الزمان دعامتين أساسيتين يرتكز عليهما البناء الروائي. إن تحديد المكان من السمات التي ميَّزت الرواية في القرن التاسع عشر، وقد أشار إيان وات(Ian Watt) إلى هذا التحول الذي طرأ على تشكيل الرواية"(239). ويأتي الاهتمام بالمكان في هذا المبحث كنتيجة تتعلق بالهوية وارتباطها بالبيئة، مقابل رغبة في تطوير الذات، واستعادة علاقة فاعلة بين الذات والمكان لتحديد هذه الهوية. والحق أن الرواية في كلِّ ذلك لا تكشف عن المكان بقدر ما تكشف عن نفسها.
إذ ينبهنا عرضها له، وحضوره فيها إلى مقامه منها، وأثره الفاعل فيها، ومساهمته الجليلة في بناء عالمها. ومعنى ذلك أنْ لا بد من توازي المقاربة الأولى، وتكمِّلها مقاربة معاكسة نتخذ فيها من المكان مطيَّة إلى الرواية لنعرف ما أهَّله ليكون معدنا من أهم معادنها، وما تحتاج إليه من الطرائق والفنيات لتحوِّله إلى مادة فنية سردية، وهي في ذلك تتوسل إستراتيجية متعددة العناصر. منها إدراكها لأهمية توزيع الفضاء في الإشارة إلى منابت الشخصيات، وتحديد مواقعها، وضبط محتوياتها، واتجاه حركتها، ورسم مواقفها، ومدِّها بالدوافع إلى الفعل. ومنها الحرص على أن تتوفر له العمارة المناسبة؛ لأن "كيفية التعامل مع الشخصيات مع ما استقر من الأشياء والموجودات هي المولدة للوعي، وهي المساهمة في إنشاء المواقف والحوارات. ومنها أيضا العمل على اختيار هيكل عام للمكان تجد فيه بنية العالم الروائي دعائمها وأسسها، وتشتق مما اجتمع عنده من أنواع الفضاء، وما انعقد بينها من الصلات معانيها ودلالاتها"(2). ولا شك في أن الرواية تصدر مزاولتها هذه للمكان عن رؤية أيديلوجية عامة تجد فيها شتى مظاهر الفضاء، وإن تعددت وتباينت مناط تجانسها وترابطها. والحق أنَّه حيثما تولَّى بنا النظر في الفن الروائي طالعنا المكان، حتى لنكاد نقتنع بأن لا سبيل إلى الاستغناء عن دراسته؛ إن شئنا الإحاطة بصناعة الرواية إحاطة جيدة. وقد كان بالإمكان أن نقتصر على ما بسطناه من شؤون المكان والبحث في كيفية تعاطي الرواية العمانية له وتوظيفها إياه، ولكن هذا المسعى على أهميته القصوى واقتناعنا بأنَّه يمكن أن يكون مبررا وجيها للإقرار بضرورتها، لا يمثل إلَّا جزءا من الموضوع وبعضا من مراميه. والإشكالية الرئيسة لا تكمن فيه، وإن كانت تحتاج إليه، بل تكمن في الطرف الثالث الواجب اجتماعه إلى الطرفين السابقين: الرواية والمكان. ونعني به المجتمع أو الإنسان عامة؛ لأن الإنسان هو المتصرف في الفضاء، وهو المنتج الفعلي لدلالات هذا الفضاء، والرواية نفسها تجهد لتكون نسخة من عالمه، وعينه من بعض مناحي واقعه. وطالما أن هذه الدراسة تعنى بدراسة المكان في الرواية العمانية الحديثة؛ كان حريا بنا الوقوف على دلالاته؛ حتى يأخذ بعدا أكثر تخصصا وعمقا فيما يتعلق بطبيعة بنيته، من خلال انتقائنا لثلاث روايات عمانية، اختلفت رؤاها الفنية عند معالجة المكان، وهي:
- المعلقة الأخيرة لحسين العبري الصادرة عام 2006
- همس الجسور لعلي المعمري الصادرة عام 2007
- سيدات القمر لجوخة الحارثي الصادرة 2010

5/2 دلالة الجسور في رواية المعلَّقة الأخيرة

تطرح رواية المعَّلقة الأخيرة لحسين العبري(*)، أسئلة جوهرية في أصل الأشياء والعلاقات، وحول الإنسان وحضوره في المجتمع، كما تنطلق التساؤلات إلى آفاق الهم الإنساني (المطلق، الوجود، الأمان، التجذر، الحرية، المواطنة).

إن حضور الخيال في هذه الرواية، وما يحمله الرمز من إيحاء؛ حوَّل العمل الروائي وسما به من الواقعي إلى الفني. حتى أصبح فيه "الجسر هو غير الجسر، والمشنقة غير المشنقة، والمصر غير المصر(*)! "فكلّ شيء سيكتسب صفات أخرى تعمل على بناء الصورة السردية"(8) التي ستعكس ما يدهش ويربك.
تحضر الجسور في رواية المعلقة الأخيرة لحسين العبري في مواضع، وأشكال على مسار السرد الحكائي، لتعبر عن امتصاص كامل للحياة الإنسانية؛ وحضورها يأخذ ثلاثة أنماط، هي:
- النمط المفهوم، وهنا يتجلى مفهوم الجسر بمعنى الانتقال إيحائيا دون ذكر للفظة الجسر. فالجسور تحضر بالمعنى التواصلي مع العالم الخارجي، والانتقال من المكان الضيق إلى المكان الأرحب؛ إذ يرتبط مفهوم الجسر بدلالات مكانية أخرى كالبيت والمكتب والشارع والحمَّام والمرآة، ومن أمثلة ذلك قول عبدالله بن محمد واصفا "كان ينظر إلى المرآة في حمام غرفة النوم بعد أن أخذ مصَّره البني اللون ليلبسه. حاول لفّ المصَّر على رأسه فلم يستطع أن يحكم ربطته النهائية لأن تلك النظرة في المرآة أشعرته أن شيئا مهما كان يعتمل داخله ويدوم ويطفو أخيرا على سطح تفكيره. بالطبع لم يكن شيئا في الحمَّام، ولا في المرآة، فلم يكن ثمة شيء مختلف هناك عن ذي قبل. لا بد إذن أن يكون التغيير الحاصل كان كامنا هناك في داخله. حاول لفّ المصَّر مرة أخرى لكنَّه للمرة الثانية، لاحظ أنَّه لم يستطع أن يعقد الربطة النهائية بشكل جيد. هو يعرف أنَّ الأمر هو أنّه في حالة وجد مستعصية، وأن المشكلة هي ليست بالضبط في داخله هو، بل إنَّها كانت هناك تتدلى في البعيد معلَّقة على الجسور، ومصورة ومكتوبة على قصاصات جرائد مثبتة على لائحة مكتبه"(240). نلاحظ ارتباط مفهوم الجسر من خلال علاقته بالمكان العالي بدلالات جمالية ونفسية، إذ أن المرآة تقدِّم جسرا نفسيا ينقله من حالة المكان المحدود المقيَّد (داخل البيت) إلى حالة المكان الرحب المتمثل بجزئيات مدينة مسقط بكل ما تضج به من حيوية وجمال وصخب. المكان العالي هنا، يمنح إمكانيات التأمل والتدقيق في الكون، وبالتالي الإبداع، من المرآة كمفهوم انتقالي/ جسري، هي محرِّض على الإبداع، وبالتالي تجسير العلاقة الداخلية النفسية مع المصَّر، من خلال معطى التأمل الذي تبعثه المرآة، وقد يشكل الحاجز الزجاجي الشفَّاف للمرآة، بعدا مؤلما داخل الحمَّام "وأثناء لبسه لمصّره كان يفكر في قضية الجسر التي كانت بالنسبة إليه قضية مهمة. الحق أن العديد من الناس هذه المرة كانوا يعدّون هذه القضية مهمة"(241). فمواجهة المرآة بفاصل زجاجي جعل الإحساس مزدوجا، فلبس المصر البني ومواجهة المرآة في آن واحد، له دلالة الجسرية التي يضيفها المكان من خلال الانتقال من حالة إلى أخرى، من حالة السلب إلى حالة الإيجاب، من حالة اللاجمالي إلى حالة الجمال، من القديم إلى الحديث، ومن الألم إلى الأمل هذا الانتقال الذي كان سينعدم فيما لو انعدمت المرآة. في هذه الرواية لايمكن أن نفصل بين عالمين يشكلان المكان:
الداخلي والخارجي، فهما متشابكان إلى حد التعقيد، وهما مسؤولان على تشكل الصورة السردية في سير الأحداث وتطورها، وحركة الشخصيات داخل الفضاء السردي، وفي تنوع وتلون الأمكنة والأزمنة. وفي الحوار مع النفس المشبع بالتساؤلات القلقة. إن الخلاص الذي تمَّ على الجسر لم يكن خلاصا مقحما من قبل الكاتب. إن الصورة السردية تكشف عن عنصرين جوهريين في عملية بنائها، وهما "عنصر التواصل وعنصر فعل الموت"(242). فحين تتوقف القراءة عند جسور: القرم والجسر الجديد وجسر داخلية البلاد فإنها ستعتبرها أداة للتواصل. إنها أدوات تربط بين ضفة وضفة، أو بين مرحلة ومرحلة، أو بين عهد وعهد في فترة انتقالية تمتاز بالتوتر والقلق، فترة تحولت فيها القرى الواقعة بين الجبال الوعرة، إلى مدن حديثة متطورة.
- النمط الفني، وهنا يحضر مفهوم الجسر عبر الرؤية التي يرسم عليها البطل الجسور كما مثَّلت في ذاكرته، مع مراعاة الأبعاد الفنية والنَّفسية والدلالية لموظف بسيط في دائرة الوطن. تحضر الجسور مع المشانق المتدلية من على هذا الجسور، ومع المشانق التي شاءت الرواية أن تتدلى من على أماكن أخرى، والأشياء التي تختفي وراء ألوان المصار (بني، أزرق فاتح، أزرق غامق)، وبالأخص المصر الأزرق الغامق، وقد تصدرت واجهته في المقدمة بالاهتمام. لإننا لا نعثر على مشانق مصنوعة من حبال رخوة أو غليظة تتدلى من على الجسور أو من على النخيل أو من أي مكان عالٍ تلفت الأنظار وتستميل الأفئدة الواجفة تحضر عبر تشكل الصورة السردية، وإنما سنصادف لونا آخر من المشانق لا ترعش إلَّا من له القدرة على احتواء الوجود بكامله في لحظة تختزل كل الأمكنة والأزمنة في صور وأشكال لا حدود لها. هذه الصور والأشكال التي كانت موجودة منذ الأزل وتتجدد باستمرار. إن المشنقة أو المعلقة غير المرئية، وهي تتخذ أشكالا مخالفة في إحساس كل إنسان على الأرض، وبين هذه المشانق التي تتدلى على جسور من الإسمنت والحديد أو من جريد النخيل أو من كل شيء يملأ العين ولا يمس ما ورائها، فتمتد إلى النساء ومصممي الديكورات، بل وحتى أكياس الشاي من خلال هيئتها الدائرية. بحيث ستبدو عملية غمس الشاي في كوب ماء عملية إعدام لذيذة؛ وبعد ذلك كلِّه ستمتد القضية إلى أطفال المدارس الذين "سيتعملون في مناهجهم الدراسية؛ وفي الرياضيات التطبيقية: كيف يعدون عدد الأفراد الذين يمكن لرقابهم أن تعدم داخل مشنقة واحدة"(243). هذه هي العوالم التي كان يتحرك البطل داخلها؛ ويحاور الأشياء، مرة وهو ينظر إلى مصرِّه الغالي ذي اللون الأزرق الغامق بعد أن يربطه بإحكام، ومرة ثانية على اللائحة المعلقة في مكتبه "انتصب عبدالله طويلا أمام اللائحة بعد أن سلَّم على زميليه محدقا في قصاصات الأوراق المثبَّتة. كان الحبل المشنقة منتصبا في صورة كبيرة على جسر القرم، وثمة حبل آخر منتصب على الجسر الجديد، وثالث على جسر داخلية البلاد"(244) في الوقت الذي كان "يحك جسده أكثر من مرة، ويشعر بألم خفيف يتآكله على الكتفين وأعلى الظهر؛ ويشعر بتوتر يظهر على هيئة عرق خفيف ينتج على ظهره أولا ثم رقبته"(245)، وكأن في ذلك نوعا من التعبير عن الإحساس بالوخزة الإحساس الحارق، والوخزة الجاثمة، والشعر الأبيض الذي يشع على الصدغين والذقن و"الصدفة التي ابتناها لنفسه واستطاع أن يخفيها عنا مدة عشرين سنة"(246). إن هذا الداخل هو المسؤول، لكن الواقع السردي سيفرض العالم الخارجي أيضا "إذ لو كان الأمر أمرا مهما وذا شأن؛ لكان اقتنع في داخله؛ إن القضية تستحق أن تتصدع صدفته بسببها. لكن أن يكون السبب خارجيا شيئا بعيدا ومعلقا على الجسر؛ شيئا هامشيا، فهذا ما لا يستطيع فهمه"(247). وانطلاقا من هذه الرؤية ينطلق بطل الرواية عبدالله بن محمد في تقديم رؤيته للمكان، ليس بوصفه مكانا عيانيا مشاهدا، وإنَّما بوصفه كتلة من المشاعر والأحاسيس التي يضفيها الإنسان المأزوم على المكان، فينقله من دائرة المشاهد والعيني، إلى دائرة الفني المتخيل الذي يطفح إنسانية. فالمكان الفني الذي يسكننا لا الذي نسكن فيه، وهذه الدلالة هي ما يمكن أن نلحظه في تعليق البطل على علاقة المشانق بالجسور"لم يكن عبدالله آنذاك قادرا على إدراك ما الذي كان يفعله حقا. كان كل ذلك الجمهور الحاشد ينتظر منه شيئا. فكان لا بد له أن يفعل شيئا"(248) فالمقطع السابق يلخص علاقة المكان/ الجسر الذي يعد معلما من معالم المدينة الحديثة، المكان/ البطل مسقط وحضوره في الأماكن التي يراها، وهو يوجه مصَّره الأزرق الغامق ليشكل نهاية ما يدور في الذهن، وبهذا يتحول الجسر بالمصَّر الأزرق إلى مكان للإبداع ليفصح عن وجع الذات التي تستحضر ما هو غائب لتشخِّصه بصريا عبر مشهد النهاية بالانتحار من على الجسر، وكأن في ذلك كسر لحالة الضياع التي يعيشها عبدالله بن محمد"استغرق الأمر أكثر من خمس ثوان ليصرخ أحدهم فجأة وقد شاهد الرجل وهو يقذف بنفسه في الهواء وطرف المصرالآخر حول رقبته. كان ذلك عبدالله بن محمد ذاته حاسرا رأسه جاحظا بعينيه متأملا الأفق ومتدليا من على حافة الجسر"(249). هكذا تشكل الجسر فنيا، إلى أبعد من التوثيق التاريخي لما يحيط به من حكايا وأحاديث، حين احتفى الروائي باليومي والمتداول والعميق ليبلور صورة عالم متشعب، مسترسل، مثله مثل المشانق المتدلية في أي مكان، في حين أن الجسر يظل شاهدا وثابتا. وأكثر من ذلك حين أضحت دلالة المكان هي مجاراتها لوعي الناس وأحاسيسهم. إذ شكلت النفس الإنسانية براعة في رسم ما تكابده من معلَّقات ومشانق بفعل جسور المدنيَّة.
- النَّمط الحقيقي، وهذا النَّمط يحضر بكل تداعياته بعد عودة اكتمال رؤية الجسر باكتمال امتداد الجسور بين المنطقة الداخلية والقرم والجسر الجديد، ليتأمل الجسور الممتدة في العاصمة مسقط، بكل ما تثيره في نفسه من تداعيات. وليس المراد بلفظة الحقيقي المعنى اللغوي المباشر بحد ذاته، وإنَّما المراد، أنما يتحكم بالسرد هو بنية مرجعية، أي الجسر الحقيقي وما يثيره ذلك من إشارات ودلالات جمالية وثقافية وتاريخية، وهو ما يصرح به البطل/ عبدالله بن محمد "في اليوم الثالث: الذي تكرر فيه مشهد الحبل المشنقة أمام جمهور الموظفين والعمال في طريقهم إلى أعمالهم بدا الأمر أشبه بتهديد حقيقي... الحبل المشنقة يتدلى من الفراغ من على جسر القرم، والسيَّارات تتزاحم، وتبدو أعين السائقين متجهة باتجاه الحبل بينما ينتشر رجال شرطة على رصيف الطريق"(250). من هنا يحضر الجسر في هذا النمط كمعادل موضوعي للمكان وكرمز من رموزه، ولكن هذا المعطى المكاني قد يتحول إلى فلسفة قائمة بحد ذاتها، تدل على التحول والانتقال، المهاودة والصراع، الغربة والضياع، وهذا ما نلحظه في قول البطل "في اليوم الرابع بدا الجميع ينتظر بلهفة وفضول ما يمكن أن يحصل. لكن لم يحصل شيء، لم يكن هناك حبل مشنقة، ولا حبل، ولا حتى أي شيء معلقا على جسر القرم"(251). إن دلالات الجسر كمكان دال على مساحة أكبر، إنَّها فلسفة خاصة زادت من تأزم المكان وضياعه. فما بين الجسر والمشنقة كمكان، منظار الجسر كمكان، بينما المشنقة التي تتدلى منه، هي النهاية، هو انتحار للإنسان. لذا تختلف النَّظرة إلى الجسر كمكان بين منظار الضياع والحضور، إذ لاحظنا أن الجسر في البداية يحضر عند شخصية البطل عبدالله، وهو غائب عن المكان بدلالة فنية الحدث، وبدلالات إيحائية الانتقال من حالة إلى أخرى. دلالة الجسر مرتبطة في مواجهة الجسر معاينة، لذلك تتناغم دلالات الجسر في الرواية مع المسار السردي لها؛ لتتخذ دلالات تصعيدية تساير الحدث، ومن هنا نقول أن تلك الدلالات ستجتح للتعبير عن النهاية المأساوية للبطل. هكذا يصبح فعل الشنق أو فعل الموت اختيارا، فليس هناك قوة سلطوية تستطيع أن تمنع أحدا من صنع مشنقته وتعليقها كما يشاء هو، ويختار"إن هذا ليس توقيته. لن يكون هو رجل المشانق إن جاء الآن. سيكون غيَّر من سلوكه، ويكون قد خدعنا جميعا!... كانت الأفكار تتقاذفه داخله بعنف. أيعقل أنه يكون فعلها الآن وهنا؟ أيعقل أن يكون قد قام الرجل أخيرا بتعليق شيء ما على الجسر؟ في مثل هذا الوقت؟"(252) فتظهر جدلية عبدالله بن محمد بمسميات الجسور (مسقط، القرم، الداخلية، الجسر الجديد) يقابلها المعلقات على رقاب الحسناوات تتدلى على صدورهن، التمائم تتدلى من على المرايا الصغيرة في مقدمة السيارات، أو على هيئة أشكال من مبدعي مصممي الديكورات -وهي أكثر المشانق سحرا وألقا- وبعضها غير مرئي ولا يدرك على أية صورة معدة سلفا. وهذا النوع الأخير قد يخرق العادة فيتدلى من الأسفل إلى الأعلى، وليس من الأعلى إلى الأسفل! مما يجعل هذه المعلقات من مفردات المكان الأولى بالنسبة له. تلك العلاقة التي تظهر لوثة الجنون الفلسفي نتيجة الوعي الحاد بآلام الحياة، وتناقضاتها، فيصل إلى حالة اللامحدودية من أي شيء، فيبدأ بشهوة الطيران في الفضاء المعلق بين الجسر والأرض يقترب من الجنون في أن تصفعه الحياة بالانتحار، الحياة التي ضيعته كثيرا.

5/3 سطوة المكان في رواية همس الجسور

بينما رواية همس الجسور لعلي المعمري، تتناول الصراع من أجل الهوية الوطنية، وتحقيق العدالة الإنسانية، ومصير حياة الثائرين من خلال التطرق إلى التاريخ العماني الحديث، بدافع سياسي، متخذة من ثورة الجنوب العماني حدثا رئيسا، لتبلور الحكاية وتصاعدها، حتى انهزام الثورة وتشتت زعاماتها. تتحرك الشخصيات في فضاء مفتوح هو المجتمع العماني بأسره، وآخر مغلق هو المعتقل حيث السجناء السياسيون الذين ينادون بقضايا وطنية كالاستقلال، والآخرون من الخارج الداعمون والمناصرون للقضية العربية، والذين يوالون الاحتلال؛ أي السلطات التي تتحكم في البلاد.
إن أبرز دلالات فضاء المكان في رواية همس الجسور يتشكل كعنصر مركزي في بناء العمل الروائي، وذلك لارتباطه الوثيق بالعناصر البنائية الأخرى، ودخوله علاقات متعددة مع بقية المكونات السردية، كالأحداث والشخصيات والرؤى السردية واللغة والزمان، وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات التي تربطه بجميع عناصره "يجعل من العسير فهم الدور الفني الذي ينهض به المكان داخل الرواية"(253).
تقترح علينا ثلاثة أنواع من المكان(256): المكان العسكري، وهو المكان الذي يمثل معقل عمليات الثُّوار. والمكان المحاصر، وهو فضاء المكان، الذي مثَّل امتداد الثُّوار وملاذهم. والمكان المفرغ، وهو فضاء إستانبول الذي تمَّ فيه سرد الحكاية، وما حملته من ذكريات ونتائج آلت إلى الموت دون تحقق لقاء منتظر بين الثائرة الكوبية همينة/ أمينة هانم، وابنها العماني وليد معسكر الثوار يعرب بن حمدان.
- المكان حدود المأسأة: وهو الذي يعنينا في هذا المقام، وقد توهج ظهوره منذ بداية الحكاية، وحتى نهايتها "لقد كانت رحلة شاقة ليلة أمس، قطعتها من مسقط مرورا بالدوحة حتى وصولي مطار أتاتورك الدولي، ما كان سبب ذلك التعب والإرهاق المسافة وطولها أبدا، بل من كان يجاورني في الطائرة..."(257). لا تعنينا في هذا العنصر ظاهرة المأساة في حد ذاتها. بل همّنا فيه معرفة ما بلغته من مدارج الوحشية لننفذ من خلالها إلى المحركات الغامضة والقيم الدفينة التي تحركها وتغذيها، ونفصح عن أثر المكان في كلِّ ذلك. وليس من الهين الإحاطة بكل مظاهر المأساة في هذا الأثر، لكونها هي الإيقاع الرئيسي الطاغي عليه. ولهذا عمدنا إلى اختيار أبلغها دلالة وأقدرها إبرازا لظاهرة المكان، وكيفية فعله في الإنسان في زمن الفجائع، ومنها قصة أمينة وابنها يعرب. سيتبين لقارئ الرواية أن هذه العبارة تشكل المفارقة الجسيمة لذاكرة الثَّورة، وما آلت إليه من نتائج الفقد والخذلان والضياع. فتتأسس دلالة المكان بهذا المقطع "منذ وصولي إلى مدينة إستانبول، مع شقائق الخيوط الأولى لضياء فجر هذا اليوم، والمدينة غارقة في المياه... ويبدو أن مناخ الأتراك يعي يقينا أنني قادم من جفاف قاحل أصابني بالظمأ، وأصاب الصحراء بالجفاف"(258). إن الظمأ والجفاف ليس في حقيقتهما غير مأساة المكان الذي ألمت به من كل صوب، وراحت تدّكه، وتقتل الحياة فيه، وتسدَ عليه الآفاق، وقد انعكس ذلك على معقل الثَّوار، فكانت متذبذبة متوترة بين قطبين، هما: الثَّورة والمكان. ليكون اللقاء في مقهى "باديهانا الواقع في جادة إيطاليا بأطراف حيّ تقسيم، خلف شارع الاستقلال"(259)؛ منطلقا للتعارف، فتتأسس مغزى الحكاية ودوافعها بسرد المكان/الموت. لتعيد ذاكرة أشلاء المكان همينة/ أمينة هانم بكلمة التحية لأهل جبال الجنوب "عندما قالت كلمة أخذت ترددها ثلاث مرات خبور. وحينما تيقنت من نطقها السليم لكلمة خبور وجدتني أجيبها وأنا فاغر الفم ومندهش: خبور خير"(260). ثم يضيف الأثر مكمِّلا هذه الصورة الثانية "لقد ساورتني في تلك اللحظة ثورة من الشك في هذه المدعوة أمينة هانم... واعتقدت أنها واحدة من السائحات التي أغرتها السياحة بالسفر إلى ظفار بعد أن فتحت البلاد أبوابها في هذا القطاع، وإن مثل هذه الكلمات البسيطة والتي يتحبب بها السيّاح في تعاملهم مع السُّكان هناك في السهل والجبل جعلها لصيقة بذاكرتها حتى الآن، أو ربما تكون باحثة في الحضارات الغابرة والتي نبتت وبادت في جنوب شرق الجزيرة العربية حينما سمعت إردم يذكر عمان"(261). وممّا يهزُّنا في هذه الصورة جمال المشهد الأول المتوهج بحرارة التفاصيل العميقة للمكان وعلاقتها بالحدث. ومنها جسور إستانبول "الجسور تقع وتتقطع، بل وتتكسر في جملتها وتفاصيلها، وحينما تحدث مثل هذه الأزمات تحل القطيعة والانفصال محل الروابط..."(262)، وكذا الحديث عن جمال منطقة ظفار وتنوع تضاريسها بين السهل والجبل والحضارة الغابرة التي تشكلت فيها، والسياحة التي ماتزال تستقطب السُّيَّاح لجمال طبيعتها، المعبِّرة عن أصالة تاريخها وحضارتها. والمعمري بهذا ينحت للتضاريس محتواها الوجداني. ويؤسس لكيان المكان عمقه الحضاري عبر الذكريات، وجذور الانغراس في بيئته وفي نفسه بالتحية الخاصة لهذا المكان بكلمة خبور. والمشهد في جملته معرض لسحر الحياة ببساطة الحياة اليومية المفعمة بالبساطة والترحاب، والأمن والأمان. وهو خال من كل أثر لمعسكر للجيش، أو معقل للثوار، أو كل ما يدعو إلى الثورة أو الضياع. حدث حين تبعثر شتات الثُّوار على الفضاء، حتى غدت كلمة خبور/ خبور خير فاتحة للحكاية والحوار. فحكاية همينة/ أمينة هانم لا تنتهي عند هذا المكان. فصلابة الثورة الجنوبية، وقسوة نتائجها جعلت منها حدثا لا معقولا. "سألتني أمينة هانم؛ من أي منطقة من عمان، وهل أنت من السكان الأصليين... فأجبتها بأن أصلي وفصلي من تلك البلاد...، وأخبرتها إن كانت تعرف جغرافية المكان، قائلا لها إنني من منطقة الباطنة الشريط الساحلي الممتد..."(263). تلك هي دلالات المشهدين المعنيين. ولكن الحركة المزدوجة في المشهد الثاني قد تعنينا أكثر. فهي التي ستبدأ معها الحديث عن زحف، وتقهقر حركة ثوَّار الجنوب العماني التي غدت قصة حياة. ومتى ضاعت هذه القصة من قبضة اليد، وأضحت في موضع الشك من الغياب أو الموت. بفقد الماضي وقيمته ومعناه، فكأنه ضائع لم نطل من ورائه شيئا، ولم نتحصل غير البحث والانتظار.
"- وهل تعرف سيف بن علي؟ سألتني عن هذا الاسم بلغة عربية مكسورة، وبرطانة ثقيلة.
- إنَّه ابني، أجبتها، لذلك ينادونني أبو السيوف.
لكنها تفحصتني بدقة، ردت بنفس الرطانة الثقيلة وهي تقول:
- إنه لا يمكن أن يكون ابنك سيف بن علي، فمن أعنيه إن كان حيا لا بد أن يكون أكبر منك بكثير على الأقل بثلاثين سنة"(264).
بهذه المقابلة الشفيفة التي حملت معها الصدفة مفاجاءات المكان العماني في مقهى باديهانا في مدينة إستانبول ينجلي معنى الفقد واللامعقول، ودلالات الماضي والغياب، فقد تشتت الثُّوار وعائلاتهم عند انهزام ثورتهم، بل خسروا فيه أول رمز للمكان/ المعقل الذي يستمدون منه طاقة الشعور بالتجذر في فضاء معين. وخسروا أداة يعيدون بفضلها تعبئة أنفسهم وصياغة كيانهم لمواجهة الحياة في كل يوم. والأدهى أنهم فقدوا امتدادهم.
إنها قصة تتسم بالتجذر والألم. متكئة على فضاء إستانبول وحوانيتها ومقاهيها فضاء خصبا لسرد مأساة ثُّوار الجنوب وما ألمَّ بهم. لتستكمل ضياعها حكاية حدود مأساة المكان في المستشفى الأمريكي "وقبل أن نعرج لنتركها ترتاح في شقة أمينة طلبت منها الذهاب إلى ثلاجة الأموات بالمستشفى الأمريكي، كي تلقي نظرة على جثمان صديقتها أمينة. والحقيقة أنني أصبحت مسكونا بالرعب من ثلاجات الأموات، بعدما شاهدت جثة يعرب وهي مهمشة وموضوعة بدرج من أدراج ثلاجة الجثث في مستشفى بورصة...، وقرأت بالعربي كلمة خبور المكتوبة على الريشة، ووضعتها بين يديها المضمومتين على صدرها وطلبت غلق درج الثلاجة وأنا أقول لنفسي: هكذا بدت خبور في باديهانا، وهكذا انتهت في درج لحفظ الجثث"(266).
إن ما أكده الكاتب/ الراوي في الباب الأخير/ باب الهمس والصمت من وصية همينة/ أمينة في كيفية التصرف بجثتها يشي بمراحل المكان الذي لازمته بقناعاتها، وما حصدته من معاناتها مع الثُّوار في الجنوب، لهو أكبر دليل على قدرية الموت، وسطوة تجذر المكان في هذه الرواية "تطاير بعض من رماد مخلفات جثة أمينة على أديم مياه البوسفور، بناء على وصيتها التي نصَّت على حرق جثمانها وتقسيمه ثلاثة أقسام بالتساوي: قسم يذر وينثر في مياه مضيق البوسفور، وهذا ما نفذناه أنا وهيلد. وقسم أوصت بنثره على ضفة ساحل من سواحل جزيرة كوبا، وسوف تقوم بتلك المهمة هيلد. أما القسم الأخير فيرسل إلى عنوان صديقتها راية وهي تعرف كيف تتصرف به..."(267).
ذاك هو المكان الفارغ في فضاء إستانبول الذي شكَّل لُحمة أساسية للبناء الروائي، وقد حددنا منه الخطوط الكبرى للبنية الداخلية والنَّفسية للثورة الشعبية في الجبال الجنوبية وانعكاساتها، وما حصدته من تفاعلات ما انفكت تنال من مفهوم الوطن. وتترجم نفسها إلى واقع فعلي جديد بقدرية الموت وموت الحرية، دون لقاء كان منتظرا بين الطبيبة الثائرة الكوبية أمينة، وابنها يعرب حمدان المنغمس بملذاته. ومن الطبيعي ألَّا يهتم هذا المبحث بالمعيش اليومي في علاقته بالثورة إلَّا بالقدر الذي يساعده ذلك على تبين حدود المأساة. لذلك لم يعرض منه إلى تفاصيله الواردة في حكايات يعرب بن حمدان الذي مثَّل حصاد تجذر الثورة.

- المكان العسكري منطلق المأسأة
من أدعى الأمثلة إلى الرفض والاحتجاج فضاء المعقل العسكري للثُّوَّار، وهو الذي مثَّلته مركزية معقل التاسع عشر من يونيو في الجبال الجنوبية في إقليم ظفار. وهو في جملته يستمد سطوته من مبادئه وأهدافه وتطلعاته بالتخلص من نفوذ الاستعمار البريطاني، وتحقيق كرامة الإنسان في عمان والخليج العربي. أي - لا من وجود الدولة-، بل من انعدامها. فهو اللادولة واللاوطن. وهو قوة الحق، وملاذ الأحرار. وهو مقر كل المتطوعين من الدول العربية وغيرها، لأجل حق الإنسان وكرامته. صحيح أن كل الفضاءات التي تعبر بنا انضوت لأجل المكان العماني؛ ولكن هذا يقودنا بجلاء إلى الخطوط الكبرة للبنية السياسية الداخلية والخارجية التي تترجم نفسها على المكان كواقع فعلي جديد، حين اتاحت للثوار إيجاد الحلول محلها. وهكذا مثَّل المكان العسكري دورا بارزا في مسار أحداث رواية همس الجسور، وما ترتب عليها من نتائج مؤلمة.
كان لقراءة همينة/ أمينة لكتاب بعنوان موجز تاريخ الصراع في ظفار، دافعا لها للذهاب إلى معسكر الثُّوَّار لتبدأ الحكاية من هناك. هذا الكتاب كشف لها الكثير عن مآسي الناس هناك مما دفعها إلى الالتحاق بعيادة معسكر الثوار"...قضت في الجنوب العماني أربعة أعوام ونيف، تداوي وتطبِّب من يحتاج إلى علاج في عيادة التاسع من يونيو في قطاع المنطقة الغربية من إقليم ظفار"(268). وحسبنا هذا الشاهد دليلا على كثرة الأخطار المتربصة بالثوار. انضوت تحت هذا الفضاء جنسيات عدة: كوبا بيروت دمشق عدن دبي مرورا بعُمان، لكنها جميعا هدفها الوصول إلى المكان العسكري لمعقل الثوار، يبرز أهمية المكان العسكري ما سمعته أمينة، وهي في طريقها من دمشق إلى عدن حين حدثها يوسف البرعي بدقة عن كفاح الشعب ضد الجور والاستعمار "لقد كان واضحا ومحددا في إعطائي فكرة عن المناخ وطبيعة المنطقة التي سوف أعيش فيها، كما أنه زادني بمعرفته بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعيشه إقيم ظفار... كان في استقبالنا في بيت عمان بدمشق دار ضيافتنا الرفيق سعيد سيف والرفيقة خيار مفتاح، وكلاهما كان شعلة من النشاط والتوقد، قدَّما لي ما أحتاجه من مساعدة لتسهيل مهمة سفري عبر طيران الميدا إلى عدن"(269)، وهذا دليل وشهادة على القيم الجهادية التي كان يتمثلها الثوار في ذلك المعقل.
أما طبيعة الملتحقين للجهاد في هذا المعقل فكما بينه يوسف البرعي وترجمه لأمينة أبو غسان عن طبيعة الثوار في ظفار"...وبدأ يوضح لي أن الثورة في ظفار تختلف عنها في كوبا وبقية العالم، ولكنها تشترك مع غيرها في الأهداف والنيات، فلا توجد طبقة العمال ولا الفلاحين بينهم، وإنما هنالك الأغلبية من الرعيان وأبناء القبائل، وبعض نساء الإقليم، والشرفاء من بعض البلدان العربية، بغية مسح الظلام من أجواء ظفار وإلغاء القرون الوسطى من سماء عمان وكل شبر في إرضه"(270). ولعل هذا يقودنا إلى دوافع التحاق بعض الفئات الأخرى بمعسكر الثورة في ظفار "لذلك اجتهد الرفيق لدى مكتب المنظمة والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي في تسهيل أمورهم كون طريق رحلتهم سيكون نفس الطريق الذي سيسلكه الرفيق أبو غسان، ولأنه صوت معروف، حيث كان ينتسب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"(271).
ولعل أبرز ما هدد الثُّوار في إقليم ظفار، مواجهتهم قوى عسكرية منظمة تدعم سياستها دول كبرى كبريطانيا، ومجاورة لها مصالح في الأرض العمانية وما جاورها هي إيران(272) التي غدت تروع مأمن الثوار وتماسكهم، وتخطف منهم البقية الباقية من إصرارهم على التمسك بالوطن وقضيته. وحسبنا هذا الشاهد دليلا على كثرة الأخطار المتربصة بالثُّوار. "كنَّا أنا وحمدان دون سوانا نتلقى بعض التوبيخات والتلميحات، بل والإهانات من قبل بعض القيادات الجديدة التي حلَّت محل القيادات القديمة لمعسكر التاسع من يونيو دون مبررات واضحة لأفعال صدرت منا"(273). فما عادت له إمكانية أن يكون مواطنا مدنيا مستقلا بذاته. وما عاد للفضاء المدني من وجود، فكل الفضاء فضاء عسكري أو لا يكون، والناس كلهم مقاتلون أو لا يكونون. "وأثناء وقوفي على باب خيمة العيادة وهو يهم بالذهاب لرؤية يعرب شعرت بقوة داخلية تدفعني كي أحضنه بشدة، لكنني لم أجرؤ على ذلك، وتركت بصري يحرس خطواته وظله وهو يمشي باتجاه الخيمة يحمل شمعة في يده اليمين. ما إن أدرت له ظهري عائدة إلى الداخل حتى سمعت صوت انفجار لم تسعفني الذاكرة لإدراك من أين جاء مصدره، وبعدها بثوان سمعت وأنا شبه مشلولة صوت طائرات الفاتنوم تقصف كل شيء في المعسكر ومخيم التاسع من يونيو، وآخر ما أتذكره من رؤية وأنا مصابة أنزف دما لا أعرف من أي بقعة يسيل من جسدي المشلول، مشهد خيمتنا تطير من الأرض بما فيها مع ضوء ووهج القنابل الساقطة على موقعنا"(274).
ومعنى ذلك أن الصلة بالمكان تكف عن أن تكون حقا طبيعيا. بل وتكف هذه المعتقل الذي بناه الثوار جميعا أن يكون دافعا لحرية الناس جميعا وتعود القوة من جديد لتقرر وحدها شأن المكان."ذهبنا مهرولين إلى قائد المعسكر الذي كان يقف وقفة عسكرية... وبدوره كان قد جهز لي العدة والعتاد..."(275)، ورغم كل ذلك تبقى ذكرى معقل الثوار ملاذا أخيرا. ويبقى معه شيء من الفضاء. هو الفضاء الذاتي الشخصي الذي كان سببا لمأسآتها وضياع أسرتها. إذ كيف يمكن "كانت مدينة حوف المكان الأقرب والآمن الذي نلجأ إليه للتسوق وجلب حاجياتنا ومتطلباتنا التي تلزمنا بشكل دائم، ولا تستغني عنها في مخيم ومعسكر التاسع من يونيو"(276). ومن بليغ الدلالة في هذا الشاهد إشارته الخفية إلى بعض المعاني الدقيقة العالقة بمفهوم المعسكر. ذاك هو إقليم ظفار بمكانه العسكري، وقد حددنا منه الخطوط الكبرى للبنة السياسية الداخلية والبنية الاجتماعية والتركيبة العرقية لمعسكر الثوار بين جباله الممتدة حتى الحدود اليمنية، وما اتفق لها من تفاعلات ما انفكت تنال من مفهوم الوطن وتترجم نفسها على المكان إلى واقع فعلي جديد حتى أتاحت للعسكر مصادرة الوطن. يتضح مما تقدم أن ثورة الجنوب المعنية ليست حرب جيش يواجه جيشا أو جماعات مسلحة. وليس القصد منها هزيمة الجيش المقبل وتدمير منشآته العسكرية. بل القصد هدم البنية الفكرية والثقافية التي تنهض عليها الحياة كلها وتستقر فيها بعض مدلولات الهويَّة/ الأيدلوجية بين هذه القبائل. وبالتالي يغدو هذا التغيير "حاملا لرؤية إنسانية لا تجرح المشاعر ولا تحمل نكرانا للذات(279). والذي تشير إليه الرواية على نحو متكرر يتقاطع ومقولة أمين معلوف بأن"الهوية انتماء واحد يحصر البشر في موقف متحيز ومتعصب"(280).
__________________
ديواني المقروء
رد مع اقتباس