تابع ورقة -د. عزيزة الطائي :
- المكان المحاصر نهاية الثُّوَّار
يمثل حصار معتقل الثُّوَّار ظاهرة هامة في المحنة التي آلت إليها مأساتهم. ومن دواعيه العامل الحربي، وهو الظاهر. وعامل الحساب السياسي وهو المضمر. ولا بد من مراعاة هذين العاملين معا لفهم المكان المحاصر، وإدراك دلالته ومراميه. وقد لا نوفق في هذا المسعى إن لم ننظر في كيفية مآل الثورة، وما عرفت من تطورات أدت إلى ممارسة الحصار على كمين الثُّوَّار في الجنوب العماني وتفجيره عام1975، فما يحمله معقل الثوار من ذاكرة شمولية عامة، باعتباره منتجا - عقائديا وفكريا- من الوعي البشري، ويصبح من الضروري تسليط الضوء على الجوانب الذاتية منها، ذلك أنه في نهاية المطاف يعمل – وفقا لبيرجر- "كمقاييس ثابتة لذاتية الإنسان"(281)
ورغم الحصار الذي فرضته بريطانيا وشركائها على المعسكر، كان هناك تواصلا بين عناصر الجبهة في عمان وجبهة التحرير الوطني في البحرين من جهة أخرى وجماعات مستقلة بمن فيهم بعض العمانيين المقيمين في البحرين، فالرسالة القادمة لعليا من دمشق تحمل في طياتها "أخبارا سيئة عن البحرين والاعتقالات الجماعية التي يشنها هندرسن رئيس جهاز الاستخبارات وأعوانه..."(282) ويكفينا هذا شهادة على أن أخطر ما في العنف والحصار هو تردية الإنسان.
فأزمة الحكاية تبدأ عندما تسرد أمينة بداية مأساة حكايتها في معسكر التاسع من يونيو "وكان صيف عام 1972 قد حل... استدعينا، نحن كافة الطواقم الطبية، من قبل قائد المعسكر، وطلب منا إلغاء كافة الإجازات والمهمات الميدانية التي نقوم بها بين الفنية والأخرى في مواقعنا في مستوصف المعسكر خلال الفترة التي تبدأ من شهر يونيو ولغاية نهاية شهر أغسطس..."(283). إن تطورات الأزمة أدت إلى ممارسة الحصار وتبريره، وصورة ذلك يوم تأجج التوتر بين الثوار والحرس "كانت المدينة تحت حراسة بعض العمانيين من معارف زوجي حمدان، وثمانية من البريطانيين من فرقة SAS، وكانت خطة الثوار شن هجوم مكثف على الحرس..."(284). كانت الانتصارات أو الهزائم خفيفة، وكانت سجالا بين الأطراف المتحاربة. ولكن هذه الوضعية لم تلبث أن تطورت لصالح قوى النظام "لكن الطيران Strike Master البريطاني حسم نتيجة المعركة لصالح النظام، مخلفا في ساحة المعركة منظرا فظيعا وبشعا..."(285) وبالتالي كانت الخسارة المعنوية في نفوس الثوَّار أكبر بكثير مما كان محسوبا. ومن تبعات قام شاه إيران بإرسال 200 مقاتل وسرب من الطائرات العمودية إلى ظفار، "فكان خط القرن الذي أصبح مركزهم عبارة عن خط دفاع شائك بالأسلاك والألغام وأجهزة إنذارات تمتد إلى الساحل في المغسيل وعلى أربعين ميلا داخل اليابسة"(286). الأمر الذي زعزع الخط الدفاعي وأدى إلى تقهقر الثوار نظرا لتعزيزه بسياج من الأسلاك والألغام والأعمدة المدببة يصعب اختراقه، "وكانت تلك هي الشعرة التي قصمت ظهر الجبهة الشعبية لتحرير عمان، بالانسحاب إلى حدود الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية"(287). ومن تبعات ذلك أن فكَّر بعض الثوار بمنحى آخر نظرا لبعض الممارسات الخاطئة، والأفعال الشائنة، التي بدت عند بعضهم وقاموا بالانسحاب أو الانضمام إلى السلطة المركزية التي تمثل الاستعمار "كان زوجي أبو يعرب مؤمنا كل الإيمان بمبادئه التي اعتنقها عن الثورة وضحى من أجلها وما زال يفعل، لكن هنالك أحوالا غيرت دافع الاستمرار والوثوق بهؤلاء البشر..."(288). ومن مهازل السياسة عام 1973 "كانت حرب أكتوبر التي دارت بين الفلسطينين وإسرائيل في الشرق الأوسط وتمَّ اغتيال الملك فيصل، وكان الشاه قد زاد قوة المساعدة للحكومة العمانية بإرسال ثلاث كتائب من القوات الإيرانية الخاصة لتحل في ظفار مع مساعدات لوجستية وثلاثين طائرة عمودية، وبذلك أصبحت القوات الإيرانية في ظفار ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل، أما المساعدات الأردنية التي أرسلها الملك حسين إلى عمان فقد كانت أيضا في نفس العام"(284). بينما عام 1974 كان إيذانا لنحر الثوار وتشتيت شملهم "فقد كثرت الانسحابات ونقشت ظاهرة هروب الثوار بأسلحتهم ومعداتهم العسكرية من مخيمنا ومخيم التاسع من يونيو إلى المدن التي تخضع للدولة العمانية، والتي أصبح اسمها سلطنةعمان منذ عام 1971"(289). والحق أن هذا يعادل السير قدما نحو الموت باستسلام بعض قواد الثورة وزعماتها إلى السلطة الحاكمة المتمثلة بالدولة العمانية، جرَّاء تدخلات بريطانيا وإيران ودعم الأردن بإرسال جيوشها لدعم الدولة العمانية الجديدة.
وكما تغيرت علاقة المحاصرين بأنفسهم تغيرت كذلك صلتهم بالأشياء التي تربطهم بالمكان، الأشياء التي كشفت لهم عن وجوه من الاستغلال ما كانت تظهر لهم لولا الحصار. كل شيء في المكان أصبح رخيصا وهزيلا. "سألته عن دور الرفيقة خيار مفتاح... أجانبي بأنهم جمدوها من عضويتها، وجمدوا كثيرا من الكوادر الممتازة التي تعمل من أجل الثورة، وليس للمصلحة الشخصية"(290). إن الحصار انتزع الأشياء من حيادها وأبعدها عن كل معاني جميلة للإنسان، وحولَّها للانهزام والاستسلام ليجعلها مهملات لا قيمة لها للمقاومة وبالتالي للحياة "وكنا أنا وحمدان نحتاط حينما نتحاور بشكل سري عن الأمور الحساسة والمهمة التي تحدث من حولنا...، ويبدأ تلك الجولة حمدان بحديثه عن الهروب الكبير لقادة وميلشيات فرق الجيش الشعبي، ثم يعرج على الجوانب السلبية للتدريب السوفيتي والصيني على حرب العصابات، وأن تلك الأساليب لا تلائم رجال الثورة..."(291). لكن هذه الأسباب أمكنت المكان المحاصر لمعقل الثوار من قوى عظمى تناوشته وكانت الدولة العمانية تعي ذلك كلهأن يقدم آلاما عميقة وتضحيات رائعة عاناها وهو في عزلة كاملة عن العالم. وكان استسلامه عام 1975. ويوم ذاك عرف من وحشية الأعداء حين كبلوه بالقنابل ما يفوق طاقة الاحتمال البشرية. حتى ضاعت عشر سنين من حياة أمينة وهي في غيبوبة جرَّاء تلك سقوط تلك القنابل "ليل شهر أكتوبر من عام 1075 في معسكر التاسع من يونيو، وصحوتي يوم الخامس والعشرين من أكتوبرعام 1985 بمستشفى سيمون بوليفار في هافانا بكوبا الوطن"(292). وهكذا كانت نتائج وحشية الحصار الذي فرضته بريطانيا، وعززته المصالح المشتركة بين الدول.
5/4القرية مخزون التاريخ وتحولاته في رواية سيدات القمر
وأخيرا رواية سيدات القمر لجوخة الحارثي، وهي رواية تتفتت فيها الرؤية السردية وتتوزع، ولكنَّها تنتج عن أصل واحد. رواية مهتمة بأمر التغيير والتحولات في المجتمع، تحكي قصة المجتمع العماني وما طرأ عليه من تغيرات تاريخية واجتماعية وتعاقب الأجيال، مواقف متراكمة عبر التَّاريخ، وثقل الواقع، ومنظور المجتمع للمرأة، ووسائط تعامل الرجل معها. منطلقة من قرية العوافي المتخيلة مكانا سرديا خصبا لقصص ممتعة مؤثرة، ترسم في مجموعها صورة التَّطور الذي طرأ على الناس وأنماط حياتهم.
المكان في هذه الرواية هو مركز الثقل، وهو المضطلع بجزء هام من الوظيفة الدلالية؛ لذلك لزم أن يتفق له من العناصر والسمات والمركبات ما يسمح له بهذا الدور. فكان مثقلا بمظاهر الجدّة والعمق والتشابك والتناقض، ناطقا بمعاني السمو والجلال، ملتفا بلفائف الغموض والغريب، مزاوجا بين صلابة الواقع وطراوة الحلم. وهو "إنتاج تقرير ثقة عن تجارب الأفراد الفعلية"(331) متخذا دعوة مستمرة إلى التفكر والمراجعة للوصول إلى الواقع والمثال. فكما يقول الراوي: "هذه السحب الكثيفة، تروقني فكرة العلو والتخلص من الجاذبية، هكذا أراقب الغيوم من علٍ، وأتذكر اندهاشي حين اكتشفت للمرة الأولى إنّها ليست سميكة" (332).
- المكان العشق الصامت
رسمت الكاتبة مجتمعا كبيراً من خلال رسم عالم أصغر منه، هو قرية العوافي المتخيلة، والانطلاق منه أحيانا إلى مدن وبلدات أكبر أو -أكثر التطور الذي طرأ- إلى مدن غربية كبرى. دخول العلم ومظاهر المدنيَّة الحديثة وتغير أنماط الحياة. العادات والتقاليد القديمة والعلاقات -الشرعي منها والمحرم- والخرافات والأساطير والعبيد والإماء وتجارة الرقيق وآثارها الإنسانية في نسيج هذا المجتمع القروي. تلك هي طرافة الرواية مجملا في فضاء أحداثها وتناقض شخصياتها. ومدخلنا إلى مكانها.
من عشق ميَّا الصامتة على ماكينة الخياطة تبدأ الرواية، ومن اختيارها اسم لندن لابنتها الذي لم يرتضِ كل المحيطين بها "يا ميَّا يا بنتي، قالت ميَّا نعم، رتبت المرأة على يديها وقالت لها: مازلت مصرة على هذا الاسم الغريب للمولودة؟ أحد يسمي بنته لندن؟ هذا اسم بلاد يا بنتي"(333). لذلك كان الاسم خارقا لمألوف الناس، بينما هو بالنسبة في نفس التي ظلت صامتة بوفائها لمن عشقت، له مدلوله المكاني والحضاري. ولئن شاء السرد له هذه الهيئة، فلكي يستأهل أن يكون تراكم المكان موطنا للتاريخ الجديد الي تؤسس الرواية انشاءه. والراوي/ عبدالله نفسه لا بد أن تتفق له الخصائص ما به يسمو لهذه المهمة. لذلك كله وما حمله من حكايات متعثرة مبعثرة من شتات القرية؛ إلَّا أنه ظل زاهدا، مترفعا عن سفاسف الحياة، أما روحه متطلعة إلى أمكنة جديدة متنوعة "كانت الطائرة تخترق سحبا كثيفة وعينا عبدالله تجافيان النوم على الرغم من الرحلة الطويلة إلى فرانكفورت"(334). فليس أشد عليه من أن يكون لا مكان له "أيتها المضيفة اللطيفة المصبوغة بعناية، ما شعورك وأنت تقضين كلّ حياتك معلّقة بين السماء والأرض؟ أنا كنت مثلك بين السماء والأرض حين رأيتها"(335). هكذا يتشكل فضاء المكان الذي ستجري فيه الأحداث، ستعمل الذات الكاتبة من الراوي عبدالله على تكوين بناء منسجما مع مزاج وطباع الشخصيات، وذلك "لأنه من اللازم أن يكون هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه أو البيئة التي تحيط بها"(336) حيث يصبح بإمكان بنية الفضاء الروائي أن تكشف لنا عن "الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية بل وتسهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها"(337).
تظهر القرية بسماتها البدائية "الحوش الترابي المستطيل ينتهي بصالة ضيقة مفتوحة بعقد نصف دائري وغرفة وحيدة"(338). بينما المدينة "وقفت امرأة عمي في حوش بيتها المصبوب بالإسمنت في وادي عدي"(339). مدلولان يؤسسان مكان الرواية بين أصالة قرية العوافي وما تحمله من تاريخ وعادات، وبين المدينة وما تشكله من حداثة وعمران. "قالت لندن: لا أحب الخوير يا أبي، لا مكان فيها للمشي، قلت لها لا تبالغي، قالت: كل هذه الشوارع مصممة لأقدام السيارات لا لأقدام البشر"(340).
يلج القارئ في عالم الرواية مزودا بفكرة مسبقة عن المكان؛ استفادها من عنوانها للفظة القمر، التي لا يقتصر معناها على هذا الكوكب الذي ينشدّ إليه الشعراء والرومانسيون، بل هو يتعدى ذلك إلى معاني الأنوثة الخصبة(الأنثى القمراء) ذات البياض، وكثرة الماء. فنجية تستنكر موقف عزان حين نادته، ليأتي إليها، ولكنه هرب "ركض كأنه جني فاجأه وهرب!.. يرفضني أنا. القمر؟" (341).
روعا سرديا مهما على الواقع بكل تحولاته، تمثل هذا في فعل النَّفس، وفعل الوجود الخارجي.
- القرية الرمز الأكبر للطبيعة
يتشكل المكان مع طبيعة الشخصيات، وتركيبتها في المجتمع، وفي نظرتها لنفسها "حين كبرت نجيّة كان بيتها هذا – المكون من غرفتين مفتوحتين على صالة مطلة على الحوش بجدار واطئ"(342). ومن ذلك إن القرية هي الرمز الأكبر للطبيعة المكانية، إذ تطالعنا مشاهد من الدلالات تتصل:
أولها: كون القرية تمثل الأرض الأصل. فهي عامل أمن وطمأنينة، والعودة إليها عودة إلى هذه الأم الخالدة، لذلك كان الأنس إليها مدعاة للتوازن النفسي والانسجام الحميمي مع الطبيعة، بما تمنحه للإنسان من شعور بالتواصل والاستمرار."كان عزان زوج سالمة راجعا من السهرة عند البدو تملكه إحساس بالنشوة،... من بعيد لاحت له أنوار العوافي،... وقد قرر عزان أن يعود إلى العوافي"(343).
وهي إلى جانب ذلك الرفض والبلاء عندما انفتح السرد إلى عالم الرق وصلته بأسيادهم، تتعزز قيم القرية القديمة "إن أهل العوافي لن يروه الضابط الناجح... هؤلاء الناس يؤمنون في الماضي لا في المستقبل"(344). وقول سنجر لأمه "نحن أحرار يا أمي"(345)
ثانيها: ما تمثله القرية من معاني الجدب التي هي رمز للموت الطبيعي لإنسانية الإنسان، وفي هذا يقول الراوي: "أرى نافذة الطائرة سيل الأنوار يسيل من المدن على البحر، سيل متعرج ومهادن، لا يشبه سيل العوافي الذي أغرق زيدا"(346). حتى الدكان فيها فالاتساع يحدث خارج حدودها حتى وإن لم يكن في المدينة "لم أكن قد رأيت سوقا في حياتي، فالدكان الوحيد في العوافي، وحلويات العيد على ألواح من الخشب بجانب مصلى العيد... أما في عبري فكان السوق عبارة عن صفين متقابلين من الدكاكين، وربما المخازن"(347). وعندما يجري تجاهل الارتباط ونفي العلاقة بين الإنسان والمكان، فإنه لا يكون له إلَّا معنى الغياب. قرية فضاؤها مظلم، بيوتها طينية، مساحاتها ضيقة. ولا يرجى التئامها بغير إحلال الإنسان في الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون فيه.
وثالثها: مفهوم الخصوبة الذي تستقر فيه إشارة خفيّة إلى الحدث الجنسي الأول الذي أنتج الحياة، وهو تجسسيم الرمزي الذهني المتواصل التي لولاها لا ما كان الوجود. فظريفة ليست محض خادمة، وإنَّما هي زوجة وأم وخليلة "عادت ظريفة من عرس أسماء منهكة من الرقص والغناء والخدمة، لكنّها وجدت التاجر سليمان مستيقظا بانتظارها، إنّه يحبّ خاصّة أن يأخذها بعد الأعراس لزينتها ولروح التجاذب التي تشعّها أجواء الزواج الجديد. كانت ظريفة ترغب في الراحة، لكنّها أرضته على عجل فنام"(348). هي تاريخ وذكرى ومكان هي حالة مجتمع. وهكذا تشتق شخصية ظريفة من عناصر المكان وحركته وعطائه. وهو ليس جمال الأشكال بقدر ما هو جمال الاتساق "والانسجام وتجاوب الموجودات مع خفق الطبيعة ونبض الحركة فيها"(349)
والقرية تحمل خطابا آخر، أشار إليه الراوي "على كثرة أسفاري مازلت أفضل الجلوس بجانب النافذة ومراقبة المدن الكبرى وهي تصغر تدريجيا حتى تتلاشى"(350). ومن البين أنه يعني أن القرية هي فضاء وجوده وحريته مع تقلص المدن الكبرى أمامه، وكأن القرية بمساحتها الصغيرة والمغلقة، هي الأصل حين يستعيد الحياة التلقائة والبساطة والأمان في حضن ظريفة كما أشار الراوي"خبئيني في صدرك يا ظريفة أنا خائف، احشري رأسي بين حجرك وصدرك، دعيني أستنشق العرق والمرق، ودعيني أنام"(351). فيسقط عن الإنسان بعض من قناعه ليخلص للآخر وينفتح له. فيتخفف من عبء الفردية إلى حد كبير. ويخرج من عزلته يتعاطى الجماعة لأن الوجود الإنساني هو الأصح والأهم في عرف القرية.
هكذا تتخذ القرية، وانفتاحها على المدينة بجليل من الرمز والإيحاءات. فهي مصدر القيم القاسية والأعراف البالية، وهي الوسيط التجذر بين الإنسان والأرض، أو الطبيعة عامة. وهكذا ستنتهي القراءة للمكان في رواية سيدات القمر إلى اكتشاف نوع من التطابق والاندماج بين طبيعة القرية وتركيبة الشخصيات التي تفيم فيها، وتتخذ الصلات بينهما مظهرا يكون من الضروري فحصه قبل أي تفكير حول الفضاء الروائي.
- المكان بين الحلم والواقع
رواية تتشكل فيها علاقة إشكالية بين الواقع المعقد والحلم المتجذر. هذه العلاقة تبنى عليها الرواية في مستوى الشكل والمضمون، وفي مستوى المكان والشخصيات التي تتفاعل معه من خلا تعاطيها الحياة، فيغدو الحلم واقعا والواقع حلما."قالت لي لندن: أحب الغيم يا أبي، وأنا صغيرة كنت أحلم أنّ لي جناحين مثل البنت في الفوازير وأطير وأجلس فوق الغيم"(352) فما كان المكان فضاء فعليا ماديا أو فضاء ذاتيا مجردا. بل كان هذا وذاك، وإن بدا الحلم الخيالي أقرب وأميل.
وحاصلها أنَّه مقدم على قراءة رواية يشكل فيها المكان/ الحلم أساسها الأول، أو يتبوأ فيها مقاما مميزا في أقل تقدير. فالحلم حاضر في الرواية حضورا مكثفا، بل لا يأذن للواقع أن يكون ذا حضور مستقل عنه، فيغدو الواقع(*) حلما، ويغدو الحلم واقعا، ويتداخل الاثنان حتى يصعب – إن لم يتعذر الفصل بينهما- أحيانا."شعرت مرارا بأنَّها ستموت تحت وطأة الرغبة في رؤيته"(353). مولد ناظم اتكأت عليه الكاتبة عبر رحلة الفضاء، رحلة المكان، وما يجول بخاطر الطائر المحلق الذي يستعيد الزمن، ويستحضر شريطا من الأحداث مشتتا، وصورا من الشخصيات واضحة في ذهنه، غامضة في لفظه. صحيح أن الفصل بين الحلم والواقع ماثل في وعي الشخصيات الروائية أحيانا، فها هي ميَّا تقول مفصحة عن هذا الوعي: "أحلف لك ياربي إني لا أريد غير رؤيته، بالعرق على جبينه مرة أخرى، بيده على جذع النخلة، بالتمرة يلوكها في فمه"(354)، وشبيه بهذا الموقف موقفها يوم ولدت ابنتها وكذا موقف أسماء يوم عرسها "فتحت أسماء عينيها فتذكرت أن اليوم يوم عرسها. تململت لبرهة في فراشها، تحسست بطنها لفكرة تكور بعد أشهر قلائل"(355)
بيد أن الفصل الواضح كثيرا ما ينسحب متراجعا، تاركا مكانه لتحول الواقع إلى حلم من جهة، ولتحول الحلم إلى واقع من جهة أخرى. فمن الأولى يصير الواقع، كل الواقع، فهذا الرواي عبدالله يقول:"أنا جلست في هذا المقعد المعلق بين السماء والأرض انتظر وصولي الوشيك لفرانكفورت، أنا في حجر ظريفة في الحوش الشرقي من البيت الكبير، عيوني مفتوحة على القمر المكتمل في السماء، وظريفة تمسد شعري وتحكي"(356). ومن جهة أخرى تحول المكان الحلم إلى واقع، يشعر الراوي أن الأحلام تمزقه باستمرار "لم يكن الناس في العوافي يعرفون أنّ وجهها الصلب شديد السمرة يخفي وراءه نهما عجيبا للحياة، وإن عرفوا أنّ هذه المرأة الميّالة للصمت والتكتم هي في الحقيقة -الماما الكبيرة- في حفلات الزار التي تُقام كل شهر في الصحراء خارج حدود العوافي وقلعهتا ومزارعها"(357). فكلما حاولت جميع الشخصيات الابتعاد عن واقعها، أعادتها إليه أحلامها المتجذرة. إن العلاقة بين المكان الحلم والواقع في رواية سيدات القمر، ليست علاقة سطحية ضحلة يتسنى استجلاء أبعادها، بل هي علاقة إشكالية قادت إلى تشعب في العلاقات الإنسانية. فنحن كما يذكر أمين معلوف"مؤتمنون على إرثين: عمودي يأتي من الأسلاف، وأفقي يأتي من العصر"(358) ومن الجهة الأخرى، جهة تحول الحلم إلى واقع، وهكذا تشعرنا الرواية باستمرار أحلامها وتمزقها.
5/5 الخاتمة
لقد مثل المكان في الرواية العمانية مشروعا سرديا مهما، وعينا على الواقع ماضيه وحاضره، الواقع بكل إشكالاته وتشققاته وأزماته. ولا يدون تاريخ مكان الإنسان بما يحمله من دلالات في أدق خصائص حياته سوى الأدب.
ومن خلال قراءتنا للمتن الدروس، والتي سعينا من خلاله تناول المكان، وربطه ببقية المكونات الروائية في ثلاثة محاور، وهي: أنواع المكان، والعلاقة بين المكان والحدث، والعلاقة بين المكان والشخصية يمكن أن ننتهي، إلى:
- أن المكان من أهم عناصر البناء حضورا وتفاعلا وتوظيفا في الرواية العمانية، على تفاوت بطبيعة الحال في كيفية هذا الحضور والتفاعل. ولكن الدراسة كشفت عن فهم واضح لأهمية المكان في العمل الروائي، وإفادة جيدة من دلالاته وعلاقاته بالمكونات الأخرى، بل إن المكان في عدد من الروايات يكاد يحتل مرتبة البطولة، ويشكل شخصية رئيسة.
- وقد كشفت دراسة المكان أيضا عن ارتباط الروايات العمانية ببيئتها خلال هذه الفترة بصورة أقوى وألصق من المراحل السابقة، سواء قُدِّم ذلك بوضوح من خلال الروايات التي صورت بيئتها المكانية المحلية بدقة وعناية، وكانت هي المسرح الوحيد للأحداث وحركة الشخصيات، والخلفية الرئيسة للبيئة الروائية، أو قُدِّم بصورة أقل وضوحا عبر القضايا الاجتماعية المرتبطة بالبيئة العمانية، والتحولات الجديدة التي شهدتها أثناء الطفرة، وبعدها كقضية السفر إلى الغرب للدراسة أو السياحة أو التجارة وما صحب ذلك من انحراف سلوكي، وقضية اللهاث المادي المسعور وتخلخل العلاقات الاجتماعية، وقضية انتقال أبناء القرى إلى المدن بحثا عن المال، ورغبة في التمدن، وقضية الانحراف السلوكي والفكري جرَّاء الانفتاح الثقافي والإعلامي، وقضية تعليم المرأة وعملها، وغيرها من القضايا الاجتماعية المرتبطة بالبيئة العمانية، والمتأثرة بالتحولات الاجتماعية فيها، والتي قُدِّمت عبر شخصيات منتمية للمكان ومرتبطة به بأسمائها وقضاياها وحركتها منه وإليه.
- يتميز المكان في النص الروائي العماني بالتنوع، فلا وجود لمكان واحد فقط في الرواية؛ هناك دائما إطار مكاني عام، وأمكنة متعددة داخل هذا الإطار، حتى الروايات التي تنحصر فيها الأحداث في إطار مكاني صغير أو ضيق تأتي مشتملة على عدة أمكنة داخل هذا المكان. فلو أن رواية اتخذت من قرية معزولة مكانا روائيا لأحداثها، فإننا داخل هذا الإطار المكاني الصغير سنجد عدة أماكن كالبيوت والأزقة والحقول وغيرها، أو لو أن رواية اتخذت المدينة مكانا لأحداثها فإننا داخل هذا المكان الكبير نجد الشارع والمقهى و الأبنية مكان الدراسة، وغيرها.
- إن المتأمل في الرواية العمانية يلمس تأثير طبيعة المكان (قرية أو مدينة) على نوعية الأحداث والقضايا المطروحة في عدد الروايات التي كان المكان فيها حاضرا بصورة فاعلة، بوصفه جزءا صميما في بنية العمل، وعنصرا فاعلا يؤثر ويتأثر بالعناصر الأخرى.
- لاحظنا أثناء الدراسة أن العلاقة بين المكان والشخصية، جاء من خلال ثلاثة محاور:
1) المكان مؤثرا في الشخصية في رواية سيدات القمر، ويمكن أن نلمس هذا التأثير من خلال إدخال العالم الخارجي بتفاصيله الصغيرة في عالم السرد الروائي التخييلي لإشعار القارئ بأنه يعيش عالم الواقع لا عالم الخيال، فاختيار الكاتبة للأسماء وربطها بالمكان وسيلة من ضمن الوسائل المحققة لإيجاد هذا الانطباع المباشر بالواقع لدى القارئ.
2) كشف المكان عن طبيعة الشخصية في رواية المعلقة الأخيرة. إن وصف أشكال المعلقات بأحجامها وأنواعها وألوانها، وصولا بدلالات جسور المدينة، كل ذلك لم يأتِ دون مسوغ، وإنما سيق لأجل التعرف على شخصية عبدالله بن محمد المأزومة ومستواها الاجتماعي، و وضعها المادي، وذوقها وطبعها ومزاجها. كما أنها قامت بالدور التنفسيري داخل النص الروائي.
3) المكان متأثرا بالشخصية في رواية همس الجسور. فالشخصية ساهمت في الكشف عن جوانب تعدد الأمكنة من خلال الراوي أبو السيوف، لأنها هي التي ترينا الأمكنة الكبيرة والصغيرة، فهو لا يظهر في العمل الروائي إلَّا من خلال حركة وجهة نظر شخصية تتحرك فيه، ولذلك فهي لا ترينا منه إلَّا ما تريدنا أن نراه؛ ومن ثم فإن مشاعر الشخصية وحالتها النفسية قد تنعكس على رؤيتها للمكان.
|