الموضوع: أسد مجان
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-07-2011, 11:30 AM
بيت حميد بيت حميد غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2011
المشاركات: 114

اوسمتي

افتراضي أسد مجان


الزمان : القرن الثالث الميلادي (200م-300م)
المكان: مجان(صحار وما جاورها)
الظروف:مدينة عامرة وحضارة قائمة، صلات تجارية وثقافية بالحضارات المجاورة(الساسانية-الرافدين-السند)


ليلة موت الشيخ المجوسي كانت ليلة فارقة في حياتي، أذكر أني جلست خارج السور بينما أبنته وخادمه عند جثمانه في ساحة البيت، كانا يتلوان عليه الصلوات أمام النار التي كان دوماً يحرص على إبقائها مشتعلة في وسط الساحة، لا أستطيع أن أصف شعوري حينها بالحزن، بل شعرت حينها أني فقدت السيطرة تماماً على دفة أفكاري، لقد هاج بي بحر الذكريات وتلاطمت أمواجه بعد أن كان ساكناً لفترة طويلة ، كل موجة تأتي أكبر عن التي سبقتها، جلست متكئاً على الجدار وأغمضت عيني أستمع لصوت النار وهمهمات الصلاة التي يتخللها نحيب الابنة، تخيلت نفسي جثة هائمة تطفو في البحر، لا تأبه للأمواج ولا للعواصف، كنت أجد في هذه الصورة بعض الراحة، ربما لأني فعلاً كنت كذلك.


بين ساعات التفكير كنت أقف وأنظر إليهما من فوق الجدار لأعرف إن كانا قد فرغا من الصلاة عليه، كان أول شخص أعرفه يموت أمامي ميتة طبيعية، تذكرت أول يوم لقيته فيه، كان ذلك قبل خمس سنين، كنت قد أصبت بالجنون تلك الليلة ، تلك الليلة التي توقد ذكراها في صدري فرناً أشد من فرن إذابة النحاس الذي عملت عليه.


كنت هارباً من نفسي الآثمة التي كرهتها ، تمنيت ليلتها لو هاجمتني وحوش الجبال ونهشت وجهي وبقرت بطني وتقاسمت أطرافي، كنت سأستسلم لها دون مقاومة، أذكر أني ألقيت سلاحي لكي لا تهابني الوحوش، ركضت بكل قوتي في الظلام علّي أتردى في أحد الأودية السحيقة ، عندما تنقطع أنفاسي أقع على وجهي ثم ما يلبث جنوني أن يستعر مرة أخرى بفعل صرخات تلك الطفلة التي أبت أن تنقطع عن سمعي فأقوم مرّة أخرى، في الصباح وجدني الشيخ مغمىً علي بالقرب من منجمه فأمر العمال بحملي إلى بيته في الأعلى.


أفقت وهم يصعدون بي نحو البيت على قمة الجبل، وضعوني على بغلة وأمسك بي أحدهم عند رأسي وآخر عند قدمي وثالث كان يقود البغلة، فوق القمة المستوية أدخلوني من بوابة سور حجري واسع، تعاون الثلاثة لإنزالي عن البغلة وحملي إلى غرفة مبنية من سعف النخيل تقع بعد البوابة مباشرة، لم يكن حملي سهلاً عليهم بسبب بنيتي الضخمة.


خرجوا عني ودخلت علي ابنة الشيخ وخادمه، كانا يتكلمان بالفارسية التي لم أكن أفهمها، جاءني الخادم بشراب مرّ وحاد الطعم كدت أتقيأ بعد شربه مباشرةً لكني ما لبثت أن غرقت في نوم عميق حتى الليل.


أفقت على حديث الشيخ وابنته بجانبي، وجدتني في ساحة البيت لا في الغرفة التي أدخلوني فيها، كانت السماء الصافية والنجوم تملأ السماء، انتبهت ابنة الشيخ لعيني المفتوحتين فنبهت أباها، تحدث الشيخ بلغة عربية متعاجمة طالباً مني الجلوس فجلست، أعطتني ابنته ماءً فشربت ثم قربت لي صحناً فيه طعام كانا قد أكلا منه وأبقيا لي بعضه، لو كانوا يعلمون من أنا لكان أقل شيء يفعلونه هو تركي في مكاني ولما كلفوا أنفسهم عناء حملي هنا ثم علاجي وإطعامي.


كنت أحس بدوار شديد ومع ذلك أكلت بشراهة لم أعهدها، ربما بسبب الشراب المسكر الذي سقاني إياه الخادم في أول مجيئي، عدت للنوم بعد الأكل ولم أصحو إلا في صباح اليوم التالي، عندما صحوت كان قرص الشمس للتو قد اكتمل طلوعه، أحسست أني وحيد في البيت، الغرفة الحجرية الوحيدة الواقعة في أقصى السور الواسع كان بابها الخشبي مقفلاً، كمية كبيرة من حطب السمر كانت في منتصف الساحة بالقرب من الموقد، تناهت لسمعي أصوات مختلطة قادمة من الأسفل من الجهة الشرقية للسور، قمت لأنظر من فوق السور فرأيت الشيخ وابنته يشرفون على عدد من الرجال الذين يوقدون النار في فرن كبير في مكان مرتفع من سفح الجبل، لم أكن أعرف حينها ما تعلمته لا حقاً أن تلك هي طريقة إذابة النحاس من الأحجار.


مع نظري للأرض المنخفضة في الأسفل شعرت أني في برج عالي يعصمني عن حياتي السابقة بآثامها وظلمها وإرثها الثقيل ، تمنيت أن أبقى هنا وأن لا أعود إلى الأسفل.


راقبت النار وهي تستعر في الفرن والرجال يغذونها بالمزيد من الحطب، بدأ النحاس الأصفر يسيل من ثقوب في جانب الفرن ليصب في أوعية فخارية.


لمحت الخادم وهو يصعد للأعلى ، عدت لمكاني حيث كنت نائماً وجلست، دخل من البوابة ونظر لي نظرة خاطفة وهو مسرع دون أن يكلمني ،دخل غرفة السعف وأخرج منها صحناً كبيراً من الصفر متجهاً إلى القدر الذي كان بقرب الموقد في منتصف الساحة، حولّ ما كان في القدر إلى الصحن إلّا قليل منه وحمله إلى داخل غرفة السعف ثم خرج وأطل من فوق السور وصاح على سيده يخبره أن الطعام جاهز، صعد الجميع إلى البيت، دخل الرجال إلى غرفة السعف وأمرني الشيخ أن أدخل معهم لتناول الطعام، من فتحة الباب رأيت ابنة الشيخ تأخذ ما تبقى في القدر من الطعام لها ولأبيها.


كانت تبدو في عمر بين الخمسين و الستين، حسبتها زوجته حتى علمت بعد ذلك أنها ابنته، جاء الشيخ بعد ذلك يطمأن علي ثم عرض علي العمل معهم مشيراً إلى بنيتي القوية بنبرة مشجعة فقبلت دون أن أسأل عن الأجر، توقعت أن يسألني عن سبب وجودي على تلك الحالة التي وجدوني عليها لكنه لم يفعل، علمت بعدها من حديث العمال أنه يحسبني جئت للبحث عن قطع الفيروز التي تظهر مع أحجار النحاس عند المنجم وسقطت فأغمي علي، صادفت بعد ذلك من يبحث عن تلك الأحجار الزرقاء الجميلة بين بقايا المناجم ثم يبيعها للصاغة اليهود عند الميناء، كما جمعت أنا كمية منها خلال عملي عند الفرن من الصخور التي يأتي بها العمال من المنجم في أسفل الوادي.


كانت أحجار النحاس توضع في الفرن ونضع عليها أحجار بيضاء نجمعها من وادي في الجهة الأخرى من الجبل، تلك الأحجار كما يقول الشيخ كانت هي التي تطلق النحاس الملتصق بالأحجار السوداء في الفرن وتصفيه ليذوب ويخرج من الثقوب الجانبية، عملي في البداية اقتصر على جمع تلك الأحجار البيضاء وتكسير الكبير منها ووضع الكمية المناسبة مع أحجار النحاس.


كنت أعمل بكل بجهدي، وعندما أنجز عملي أساعد في الأعمال الأخرى خصوصاً العناية بتغذية النار في الفرن، رأى مني الشيخ جلداً كبيراً على النار ، لم يعرف أن النار التي كانت في صدري حينها أشد من نار فرنه ولهذا كنت أقوى عن غيري على النار، أوكلني بأمر الفرن وهو العمل الرئيسي في استخراج النحاس، ولم يعد ينزل من بيته إلا مرة أو مرتين في اليوم وبدل ذلك كان يراقب العمل من أعلى.


كنا نحمل النحاس بعد أن يبرد إلى الغرفة الحجرية ، كل شهر أو شهرين كان يمر بنا تجار في قوافل محروسة يشترون النحاس وعندما يذهب الشيخ للمدينة فإنه يحمل شيئاً منه يقايضه بالمؤن، أغلب التجار الذين يأتون للشراء هم من الفرس ونادراً ما يأتي بعض اليهود الصفارين لشراء النحاس من أجل صنع الأواني.


لم أسأله يوماً عن أجري طيلة السنين التي عملتها معه لأني لم أكن أود الخروج من محيط الجبل، بل لم أكن أجرؤ على النظر في اتجاه البحر حيث المدينة خوفاً من هياج البحر الذي بصدري، كان دوماً يقول أني أستطيع أن أطلب منه أجري متى ما أريد وإن مات فإن ابنته تعرف ما يجب أن تدفع لي، لم يعرف أحدهم اسمي الحقيقي فقد اتخذت اسماً جديداً هو " رمثة "، وهو اسم رفيق أبي الذي بقيت في كنفه، كل الرجال الذين كانوا يعملون مع المجوسي كانوا من سكان القرى القريبة التي لم أقترب منه يوماً ولهذا لم أكن أخشى كثيراً أن يتعرف علي أحدهم، في إحدى المرات سمعت أحدهم يذكر قصة أبي التي سمعها من أبيه لبقية الرجال بينما كنا ننتظر النحاس المذاب أن يبرد لننقله للأعلى ، لم أشعر إلا وأنا أتناول الإناء الفخاري المليء بالنحاس الساخن فالتصق جلد أصابعي بالإناء ، أسرعوا نحوي يرشون يدي بالماء ويسألون عمّا دهاني، قلت لهم أني حسبته قد برد .


كنت أخشى موت الشيخ بشدة، سمعته مرات عديدة يوصي ابنته أمامي بأن تبيع كل شيء وتعود لموطنها في البر الفارسي في حال موته، ثم يوصيني بأن أساعدها على ذلك ويظهر عدم ثقته بالخادم الفارسي، كان ذلك يعني بالنسبة لي سقوط هذا البرج الذي أحتمي فيه عن ذاتي السابقة.


كان يتمنى أن تعامل جثته حسب التقاليد المجوسية فتترك في برج عالي لتأكلها الطيور الجارحة لكن لعدم وجود تلك الأبراج أو "الدخمة" كما كان يسميها في مجان فأوصى أن تدفن جثته في صندوق حديدي محكم الإغلاق لكي لا تلوث العناصر المقدسة في المجوسية وهي التراب والماء والنار، كنت قد عرفت هذا عن المجوس من رفيق أبي رمثة الذي تسميت باسمه، كما عرفت منه أن ديانة المجوس هي الزرادشتية وإنما سميت بالمجوسية نسبة إلى قبيلة المجوس الذين اتبعوها أول الأمر.

عمي رمثة، كما كنت أناديه، كان فرداً فريداً بين كل قطاع الطرق الذين لا يخرج اهتمامهم عن موعد ومكان الغارة القادمة، كان على علم دقيق بالنجوم وتقلب الفصول، كان قد لقنني قصيدة طويلة تصف مواقع النجوم وحركتها وتقلب الفصول معها، كما كان يتردد على أصحاب الأديرة من اليهود والنصارى، صحبته غير مرة إلى رجل من العرب الوافدين من الغرب الذين يدين بعضهم بالنصرانية، فوجئت به في أول مرة صحبته إلى ذلك الرجل وهو يجادل ويقارن بين الأديان وأقوال في الرب والموت والحياة والفناء.
لم يكن يدين بدين معين لكنه كان يؤمن بوجود رب عادل يسير الكون وبالحياة بعد الموت وبالحساب على الأعمال.


للقصة بقية .....

التعديل الأخير تم بواسطة بيت حميد ; 04-07-2011 الساعة 11:36 AM
رد مع اقتباس