الموضوع: أسد مجان
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-07-2011, 11:35 AM
بيت حميد بيت حميد غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2011
المشاركات: 114

اوسمتي

افتراضي

كان المجوسي قد أعد صندوقه المعدني منذ فترة تقارب السنة قبل موته، لا زلت أذكره حين وقف ممسكاً بجريدة نخل يقيس بها قامته ، قطعها على طول أكثر قليلاً عن قامته وبعثها مع أحد أصدقائه التجار الذين يشترون النحاس ليعطيها لحداد في المدينة كمقاس للصندوق.



كانت ميتة هينة، تعشى بالقرب من موقده مع ابنته وأنا تعشيت مع الخادم عند باب غرفة السعف حيث يصلنا شيء من ضوء النار، بعد العشاء أحس بحرقة شديدة في صدره تعود أن يتداوى عنها ببعض الأعشاب، جاءته ابنته بالأعشاب بعد أن بللتها بالماء وبدأ يمضغها، ذهبت لتأتي له بالفراش من الغرفة الحجرية فسقط على وجهه ميتاً قبل أن تخرج هي من الغرفة.




أخرجت رأسي من بين ركبتي ووقفت لأنظر داخل السور، كانت أصواتهما قد هدأت ونارهما قد خبت، أدركت أنه الوقت المناسب لوضع الشيخ في صندوقه، استأذنت ابنته لأخرج الصندوق من الغرفة ، جئت بالصندوق وكنت متحيراً في أمر ملابسه إن كان يجب أن أنزعها عنه، بدد حيرتي قول ابنته " انزع عنه ملابسه وضعه في الصندوق، أخبرني عندما تنتهي من ذلك".



قامت وجلست عند باب غرفتها موجهة وجهها للداخل، نزعت الملابس عن الجثة ووضعتها في الصندوق وأحكمت إغلاقه، جاءت دون أن أخبرها ، لابد أنها سمعت صوت إغلاق أقفال الصندوق الثلاثة، انكبت على الصندوق تنتحب لدقائق ثم قامت، أشارت إلى امتداد مرتفع من القمة طالبة منا أن ندفنه فيه، استمهلتها حتى الصباح لكنها أصرت أن ندفنه في تلك الساعة.


حملت الصندوق وحيداً بعد أن لاحظت الإجهاد البادي على الخادم وطلبت منه عوضاً عن مساعدتي حمل أدوات الحفر، استغرقت وقتاً طويلاً لحفر القبر بسبب كثرة الصخور، كانت ابنته تراقبنا من على مسافة حاملة جذوة مشتعلة، أتممنا الدفن ثم كومنا عليه الحجارة التي أخرجناها خلال الحفر، فرغت من كل شيء ونظرت باتجاه الشرق حيث كانت تقف ابنته، كانت مازالت واقفة لكن عيني تسمرت على شيء آخر، تسمرت عيني على الضوء المنبعث من منارة الميناء البعيد التي لم أرها منذ سنين، أدركت أنها إشارة لمرحلة جديدة.



كان الفجر قد اقترب، عندما عدنا إلى البيت كان العمال مجتمعين عند الباب ليأخذوا أدوات الحفر، تعجبوا عندما رأونا قادمين من الجهة العالية من قمة الجبل ثم فجعوا بالخبر، دخلت ابنة الشيخ إلى حجرتها وجلست أنا والعمال والخادم في الساحة، أخبرتهم بوصية الشيخ لابنته بأن تعود لفارس بمجرد وفاته وأنها غالباً ستبيع المنجم والبيت والفرن، لم يطل الأمر بها حتى خرجت وأكدت لهم ما سبق أن قلته لهم ، عرضت عليهم أن يأخذوا بعض النحاس كأجر لهم عن أيام عملهم فوافقوا وأخذوا ما يرضيهم وانصرفوا، أخبرتني أنها ستنتظر التجار الذين يشترون النحاس لتعرض عليهم شراء المنجم والبيت والفرن، بعد أسبوع مر بنا أحد أولئك التجار الفرس وكان صديقاً قديماً للشيخ ومن ذات بلاد الشيخ، عرض على الابنة مقايضتها ببيت وحديقة في فارس مقابل المنجم والبيت والفرن على أن يتكفل بتوصيلها وحراستها مع أموالها حتى تصل، وافقت وهي شاكرة له على ما قالت انه كرم منه، تحدد يوم رحيلها بعد ثلاثة أيام لتتوافق مع عودة ذلك التاجر من تطوافه على مناجم النحاس الأخرى.



قضينا صبيحة اليوم السابق لقدوم القافلة في ترتيب أشياءها وصفها في غرفة السعف استعداداً لعودة قافلة التاجر، لم أكن أعلم أنها أبقت المال مدفوناً في الغرفة الحجرية، أما الخادم فقد اتضح أنه يعلم بذلك وأنه كان يخطط لسرقته، ليلتها نمنا أنا والخادم كالعادة في غرفة السعف ونامت هي خارج باب غرفتها الحجرية مثل ما كانت تفعل في كثير من الأيام، سمعت صرخات استغاثتها فقمت مرتاعاً وقد لبسني شيطاني القديم، لم أعي لنفسي إلا ويميني تعتصر رقبة الخادم وقد أشرف على الهلاك وسقطت صرة كبيرة من المال من يده، لطالما كانت تلك طريقتي المفضلة في القتل بصمت، أرخيت يدي عنه بسرعة وتذكرت أنه سقاني دواءً يوم أتيت هنا أول الأمر.



كان أضعف من أن يتمكن من المشي عندما تركته، جاءت والتقطت صرتها وأمسكت بقطعة حطب وصارت تضربه بها حتى سقط وهو يستعطفها أن تتركه، طردته لكنه لم يذهب بعيداً عن بوابة السور حيث جلس يبكي، أما هي فلم تسكت حتى الصباح، لم أفقه كل ما كانت تقول سوى أنها كانت تذكر إكرام أبيها له ولأهله في فارس ثم تلومه على محاولة سرقتها، استطعت النوم قليلاً عند الفجر رغم حديثها المتواصل، وتعجبت كثيراً عندما صحوت فوجدته يعد طعام الإفطار بعدما سمحت له بالدخول.

جاءت القافلة في الموعد ذلك الصباح، سلمها التاجر كتاباً منه بحقها في البيت والبستان في فارس ومهره أمامها بمهره، وبالمقابل كتبت هي كتاباً له بالبيت والمنجم والفرن ومهرته بمهر أبيها.


حمل رجال التاجر متاعها إلى أسفل الوادي حيث حملوه على بغلتين وأعدوا لها ثالثة لتركبها، سألتني أن أرافقها للمدينة حيث ستدفع لي أجري عن السنوات الماضية، لو رفضت مرافقتها لدفعت لي في حينها لكني فضلت أن أرافقها لأدخل المدينة في قافلة، أشعرني ذلك بالأمان من أن يتعرف علي أحد.
لم يكن أمامي خيار آخر سوى التوجه للمدينة والذوبان فيها آملاً أن لا يتعرف علي أحد، البديل الوحيد لذلك هو العودة لحياة قطاع الطرق التي أصبحت تعتريني رعشة كلما تذكرت أفعالي في بعض الغزوات خصوصاً تلك الليلة المشؤومة.

قبل تلك الليلة التي لا تنسى، عصراً وقبل غروب الشمس بقليل كنت قد اقتربت من أحدى القرى لأستطلع لعلي أجد نوقاً قصية أغنمها، لمحت فتاة صغيرة تدخل أحد البيوت في طرف القرية ، عزمت على اختطافها وبيعها، عند انتصاف الليل أنخت ناقتي على مسافة من القرية وتسللت حتى اقتربت من بيت الفتاة ، سكنت حتى تيقنت أنهم جميعاً نائمين، قطعت حبل الباب بالخنجر وفرجت بين دفتيه ودخلت، كانت البنت نائمة بين أمها وأبيها على منامة في وسط البيت، مشيت حتى أصبحت عند أقدامهم، وضعت يدي تحت الطفلة بهدوء ورفعتها، حسبت أنها لن تصحو إلا وقد ابتعدت بها، لكنها فاجأتني بصرخة قام على إثرها أبوها وأمها، تعلق الأب برجلي وأنا ممسك بالبنت فركلته، عاد وتعلق برجلي الأخرى وأخذ يصرخ، خفت أن يسمعه أهل القرية فيجتمعون علي، أنزلت البنت ورفعته بيد واحدة ثم شققته بالخنجر كما تشق الذبيحة، البنت لم تهرب عندما أنزلتها بل وقفت تصرخ في وجهي صرخات متلاحقة، تلك الصرخات كانت تصب في رأسي حميماً أفقدني صوابي، حتى عندما خرجت وتركتها ركضت خلفي وهي تصرخ وأنا أحاول أن أسد أذني عنها، توغلت بعيداً في الجبال ومازالت صرخاتها تتردد كالصدى بين الجبال والوديان لتواصل صب الحميم في رأسي وصدري حتى انتهى بي الأمر عند المنجم.

بالرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على حادثة قتل أبي علناً في سوق المدينة وقطع رأسه أمام عيني إلا أنها مازالت تمر بمخيلتي كأنها حدثت قبل ساعة، كنت حينها لم أتجاوز العاشرة، ما زلت أسمع مَن حولي يصيحون بالرجال الذين كانوا يجرونه وهو مقيد أن يقطعوا رأسه، أذكر أني رفعت بصري إلى رجل بجانبي فرأيت الزبد يخرج من فمه من شدة حماسته للمشهد.



قطع رأسه وعلق في السوق تنكيلاً به، ثم أخذوه في اليوم التالي وعلقوه في السوق الذي يؤمه البدو وأهل الجبال إلى الغرب من المدينة، عدت يومها إلى البيت دون أن أبكي، كنت أخشى النظر إلى وجه أمي، توقعت أن تلومني على عدم مساعدته، وجدتها وسط جمع من النسوة، رأتني فقامت لاحتضاني وهي تبكي لكني هربت عنها بسرعة إلى خارج البيت، ربما أحسست حينها أني لا أستحق العطف بل أستحق اللوم.


عدت للبيت بعد غياب الشمس بقليل بعد أن تعبت من المشي والتفكير، كدت أدخل البيت وأغلق الباب الخشبي خلفي لولا دفعة قوية للباب أطاحت بي مستلقياً، دخل رجل سبق أن رأيته مع أبي وانتزعني من على الأرض بيد واحدة كالريشة ، خرج بي ووضعني أمامه على ناقة كانت معدة خلف البيت، أمرني بالسكوت وقال لي أنه يأخذني مخافة أن يقتلوني كما فعلوا بوالدي، كان ذلك هو عمي رمثة الذي بقيت معه حتى الليلة التي وجدوني فيها عند المنجم.



للقصة بقية
رد مع اقتباس