رئيسية الموقع المجلة مكتبة الصور دواويين الشعراء المسموعة المنتديات

  
 

قسم فصيح متنوع
(1) - (18)
تاريخ الإضافة: 02/02/2007 رشح | إهداء

(1)

كانوا هناك يرتّبون أحلامهم
كلما مرت غيمةً
أو جناح قطاة
ركلوا الأودية بحوافر أفراسهم
ذابوا في هباء المغيب.

كانوا هناك
يرتّبون الصباحات على عجل
ويرشقون سماءً جارحةً
بنظرات ملؤها التوجّس
والوحشة
مشدودين إلى مدارات
لم يعد لها من حنين
وجبال أفرغ الطير أحشاءه في سفوحها.

ليكن بهاؤك أيتها الآفاق
طريدة أشباحهم
منابر أطياف عميقة لنسور عابرة
وهاويات:
كم أنت سعيدة
أيتها الهاوية
نحدق في ظلامك الغزير
لنستجدي هداياك الغامضة
أشلاءك المبعثرة في تخوم بعيدةٍ
كانت مأوى لشريد
وحكمةً لضلال محتشد بوعوله
حيث تقشعر أفئدة القساة
في ليل بربريّ المزاج.

نحدق في ظلامك البهيج
ظلامك الممطر نيازك
وأحياء يتذكرون موتهم
يتذكرون النعمة.
جهاتك الكون
وعلى مقربة من هذاياناتك
يلتئم جرحٌ قادمٌ من أزمنة سحيقة.

تطوف الليالي على طبقاتك
كمياه راكدة
مياه مزدافة بالضفاف والأساور
أيتها المفعمة بالغبطة
تقفين وسط دوار العالم
ضاحكة وشاسعة
على مفرقك أمة من الأسرى.

لأنك الوحيدة التي بلا عيب
بلا ماض ولا مستقبل
كالمصير والمحاق
كالمحّو والمحاق
وكالأزمنة وقد فرغت من أعبائها البشرية
ولاذت بالسكينة.

كانوا هناك يرتّبون العُزلات
والعواصف
لا يفصلهم عن الأبديّة
إلا قوس جبال ضارب في البحر
وأساطير بحّارة غرقوا
واقفين أمام الله
يتامى
يخبط الموج أقدامهم
أمام شمس نازفة في العيون.

أيتها السكينة يا من تذرفين الموسيقى كثيراً
وتعاشرين الموتى
امنحي أرواحهم بعض الهدوء
حلّي رتاج العواصف عنها
ذكريهم بأطفال غائبين
ونساء يسكنّ المتاهة.

حلّي رتاج العواصفُ
يا من تغدقين على الصحراء مهابتها
وتؤثثين الهاوية
أعرف أنك الأكثر رأفة من السلالة
من هذه الحشود التي تسحب أمعاءها
في الساحات والعربات
والوديان
أنت القادمة من جهات مشطورة
بالشكيمة
حيث السلالات أضاعت خاتمها
في بطن حوت.

وكان الدخان يتصاعد من أفواه القتلى في ميدان المعركة، معركتهم التي ما فتئنا نردد أناشيدها جيلاً بعد آخر مأخوذين بالرنين الباهر للضحيّة في نزوعها الجماعي نحو الموت، نردد الأناشيد الباسلة لموت لم يعد له طعم الموت، لأيام تعيش خواءها ومدن تغرق في بحر تفتك به الأساطيل الذرية وزحف الأوبئة المحيق.

أعرفك
أعرف من أي فجاجٍ تتسللين إلى
فراشي
أيتها المستبدة في فمك غصن الانتقام
أنا الذي كنتُ عارياً
فألبستني جسدك
مشردا فكان رحمك منزل الغريب
مدبوغاً بالأرق والمحنة
فكنتِ فتنة النبيذ حين يندلق
بحانة القطار
في ليلنا الأخير.
المستبدة عن شقاء وعن بهجة
عن جفاف وعن مطر
تعوين من فرط اللذة، أمام
القمر المعتم الذي يقتحم النافذة
في المدينة الكبيرة التي يعلوها
الدخان والعويل.

جنّتك المغلقة
أحوم حولها سكران من ترف
الصدمة، ألعق فيض اللعاب والعطر
وأشتم رائحة الأسلاف في كهوفهم
البعيدة.

أعرفك الآن جيداً
عبر غياباتنا وأشلائنا
عبر انمحاء خصرك في الغابة
- الغياب إقامة في الروح –
أصبحت أكثر سطوعا في عين جوارحي
أكثر اقتناصاً لبروق اليتم
أغالب موجك اليومي كي أستطيع السير
واستجديه للسبب نفسه
أيتها القادمة من فجاج الرأس
مسوقةً بأحلامك
مسوقة بالدمع ينسكب من
أفواه الجبال
بشعوب أنهكها القيظ وحيوانات
الصحراء
نورك المتسلل إلى عتمة كوابيسي
نورك القليل الرّاشح من مغيبه
لا يضاهيه الكمال في عرشه الكلّي.

أعرفكِ
أعرفك الغضب حين يضيء مفاتنك
أعرف الشر حين تنضحين رغبة
الفراش
يا ذهباً يبحث عنه العميان
في مناجم منهارة.

في فمك غصن الانتقام
أيتها الكراهية
يا من لا تنوء حملا بثقل طيورها
تتنزهين في صباحاتي
صباحات البشر الكئيبة
في هذه المدينة المقصوفة بالشهب
والدكاكين
تأوين إلى فراشي
مدللة، جميلة، باذخة،
موغلة في استعراضات حشودك
في حظائر مخلوقاتك
وأبقارك
في دولك الكبرى والصغرى
موغلةً في الصرخة مقذوفة من
فم الملاك
يا من امتدحك الشعر
وخضعت لك المحيطات
لستِ القيامة ولا نذيراً بها
أنتِ عجينة الكائن
علّة الجنس بين عشيقين
انبلاج فجر الذرة
رفسة الطفل لجدران الرحم
وأنت أيضاً
التي تدربين الصّبية في المخيمات
على السعي نحو العدالة
وحمل السلاح
المنفيين على حب الخيانة
والمقيمين على البلادة
أنت بجناحيك الكبيرين
تجوبين البسيطة
بحثاً عن لمسة الرجل نحو المرأة
التي يفترسها السرطان.
أنجزت المهمة بضراوة السباع
بفداحة الطوفان الذي جرف
السفينة والحمائم
وبقي وجهك على غمر الماء
خالقة ومخلوقة
سعيدة بكونك الجديد
سعيدة بزواج أبنائك من بنات آوى
ينتحبن فوق قمم الجبال
أيتها الكراهية
يا بصقة الكائن في نزعه الأخير.

(2)


هذا الوجه أين رأيته، أين صادفته
في مهب أحوالي ومعترك مدائني،
في الحلم أو اليقظة، في الشرق أو الغرب
بأي ساحة أو مدينة وزقاق.

في الدخان المتصاعد من حناجر الغرقى،
في المتوسط وبحر إيجة، كازنتزاكي،
يتنزه بين عظام الإغريق، في البحر الميت
أو البحر الشمالي حيث القراصنة بلحاهم
الصفراء تتطاير في البرد والضباب.

هذا الوجه الموؤود في قعر غرائزي
في ظلام ذاكرتي
أعرفه جيداً، أعرف إيماءاته الرشيقة
في الأثير، أعرف خطوته

التي تخبئ الكنز، ذهاباً وإياباً
من غير معرفة ولا جهل، حالة،
الخطر، المتدليّة من لهاة
برق الجنوب المشروع على النافذة،
يجعل ملامحه متلعثمة وخجلة كأنما نزل
للحظة من قريته، مخضّباً بالحنّاء
وجرس الصفارد تحت الصخرة الكبيرة،
التي دفن تحتها غزاة لا هوية لهم ولا
أطماع، غزاة البراءة التي تنبلج في فجر
العاشق للمرة الأولى والأخيرة.

وجه أمي الذي لا أجرؤ على النظر إليه كأنما أهرب من جنتي المستحيلة، الذابلة حتى التلاشي، جنة لم تكن لأحد غيري قبل أن يتصرّم حبلها.

وجه أبي، وجه المرأة التي أصبحت مجهولة لا عنوان لها، وجه الوجوه، إسورة الفيضان؛ ليل المدينة الذي ظلامه من وجوه تتدفق من الجهات كلها، من النوافذ المضاءة والمغلقة، من الحدائق والخرائب والحانات، تنخلُ الجسد الوحيد على الأريكة التي طالها البلى وعبثت بها رياح الصحراء.

الوجوه حين تنفجر هكذا، دفعة واحدة فاتحة جدول النحيب.

(3)


الباشقُ الذي كان ينقض على السلاحف
والأسماك في القيعان البحرية المثلّمة،
وفي الكهوف والخلجان، أراه الآن
يحوّم مع إناث خياله في هدوء سماء
لم تعد تحلم بالنّجوم والمفاجآت.

سماء خرساء بمجراتها الهرمة كأبراج مدينة منكوبة
وبرك تتموج تحت نعيق الغربان ومفارش
الخريف.

على خطمه دم المسافة
الباشق، شقيق الهجران الذي
كان يحتوي بمخالب حنانه الفريسة
ويضمها كعريس يلتهم بها الفضاء
والليل، مكللاً بمجد اضطرابه من فرط النشوة، هو الوحيد من غير صلات تذكر من عائلات الجوارح، يحمل في حناياه مزاجه المتقلب ويحمل عروس وحدته كجوهر استرده من مغتصبيه مسافراً بين جزائر زرقاء ونيران غجر في مسودّة أفق باهظ الخرافة والعصبية بصواعقه وأمطاره المحتقنة، عقدة في جبين العواصف القادمة من بحار الهند باتجاه بحر عُمان المتاخم لقلاع الفرس وأناشيد الرعاة المنحدرين من الهضبات الى وُقب الأفلاج التي تلمع في رأس المسافر كالسراب المثخن بجراحه وطيوره.

الباشق الشريد، قُنفذ المتاهة الذي
لا يفصله عن الأبد إلا أرخبيل قزحيّ
يتنزه في مرآة عدم كاسر، عدم
يرتب المكان والبشر والحيوات
المسرفة في الغواية.

لا يفصله عن الأبد إلا شرفات
محطّمة
وكنائس مضفورة من ضلوع الموتى

(4)


الشجر الذابل أمام بيتي، أرقبه كل صباح وأنا ذاهب إلى العمل وكل مساء وأنا قادم من البحر، وقد أرخى أيامه بيأس أمام سطوة الجبال
والمآذن والعمائر المأهولة بالجفاف وبمخلوقات زنخة تفوح من أردائها جثة العالم المتفســخة منذ قرون.

أرقب الشجر، شجر الميموزا، المسترسل في هذيان الغياب عن محيطه وطيوره وعن الجذور التي أصبحت تغذيها النفايات السامة في أعماق الأرض الملحية، التي تصارعت على أديمها أرومات البشر والضباع والأشجار السامقة، حتى أعالي جبال الأنديز، ولم تهدأ روحها القلقة العصيّة عبر الأزمنة حتى أمام أعنف الطلقات غدرا وخيانة.

ظلت تسري في روح الفصول والأبناء والأحفاد، حتى جف نسغُها واضمحل تلقائياً بهدوء عطر مراوغ ودعة، حتى ابتلعتها الفصول التي استحالت الى فصل طويل جارف كشاحنة خرافية تمخر في عباب الليل البشري للقسوة.

(5)


لا أرى شيئاً
لا أسمع شيئاً
غارقاً في ظلام مقابري
حتى بقايا العنادل والعصافير البرية وطيور
أخرى جلبت من نواحي تايلند
وبحر العندمان
والتي كانت تذكرني بالحياة، سكتت دفعة واحدة كأنما نزفت صوتها للمرة الأخيرة أو قطعت عادتها اليومية.

كذلك الكلب النابح في العتمة
صخب الهنود والمكيّفات
مومسات وسكارى
النداء الوهمي لباعة متجوّلين
شرطة بجنازير وبذلات أنيقة
يتنزهون في الحي الثلاثيني
مصحوبين بالضباب المحتدم والمشرّدين
يعلكون اللبان على حافة المترو

بواب الإسكندرية العجوز. طيور هيتشكوك. ذرية الأحقاف. برذون الخليفة. فراء الأميرة. جان دمو. مقهى اللاتيرنا. مصارعو ثيران قدماء. جلبة الذئاب والقطارات. مخدع المضاجعة لامرأة مجهولة. غيمة النار الزرقاء. نفي مواقد البدو.

الثعالب البيضاء تتنزه في أحلام
الفتيات.

رعايا الذاكرة ينهارون كما تنهار
القمم الثلجية في مخيّلة المغامر.
هكذا دفعة واحدة.
يقطع اليمام هديله الى الأبد
كما ذهبت أنت ذات دهر
أمام البناية الضّخمة في المدينة النفطيّة،
من غير كلمة ولا تلويحة وداع
يختفي المشهد بكامله
كأنما ابتلعته الأرض
أو اختطفته عنقاء الجبال

وبما يشبه هذيان النائم
وسط تهاويل السفوح
تطوي الحياة موجتها
تحت قدم التيه.

(6)


أحلام القدماء
تلك التي تفعمني برائحة
الموتى في السرير
أراهم يختالون في حدائقهم المليئة
بالسناجب
في غسق المقابر
مشيرين إليّ بضراعة وعنف
أن التحق بالقافلة
رغم غواء كلبها الجريح.
وربما غير ذلك
لا أكاد أتبيّن الإشارات
في ظلام المقابر الدامس.

(7)


عيونهم مغمضة قليلاً
يضطجعون على الخاصرة
يفتحون جزءاً منها
كأنما ثقل التراب على الجسد
أحزنهم قليلاً
وغياب الأحبة
يتذكرون ميلادهم
في صرخة مباغتة
ولا يفكرون بالقيامة.

(8)


يتذكرون الدنيا
بأوجه شاحبة
وقلوب مكلومة
كأنما مرت عليها عربات جلاّدين.

الطرقات وقد شاخت
تحت أقدامهم
مفعمة بروائح الأجساد التي أنهكوها كثيراً
مسوقين برغبة الزوال
الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة
التي ساومت في كل شيء
ربما رغبة في التجديد
رغبة في الخلاص
عرين الأسرار الأزليّة
يفقس بيوضه في السلالات
التي تجرجر أثقالها من فيضان
إلى آخر.

مسوقين بالرغبة نفسها
التي لا تشيخ مع الأحقاب
الموتى الذين لا يتذكرون موتهم
ويتذكرون الغيمة التي تنزل مع المساء
على الأسطح والجبال
و على مراوح النخيل.

(9)


تلك قصارى أيامهم
ينزل المطر على الصحراء
يصغون لثغاء الماعز
والطيور المهاجرة التي دمرها التعبُ
فانسكبت في حياض الصحراء
يصغون إلى حنينهم
ينفجر مع البرق، صواعق
تقصف الطرقات

لبكاء أطفالهم الذين لم يولدوا
للبهجة تعبر رؤوسهم نحو سمر بعيد.
للطفولة
يتسلقون ظلالها في الردهة
المظلمة
لعفاريت البيت القديم
ومطاريح المياه

(10)


وروت القابلات حكايات عن طفولتهم
ونائحات الخرافة بالأجرة
حكايات بددها النسيان
وبقيت مزقاً كالأجنة الميّتة في الأرحام.

حكايات ليست عن قوم عاد وثمود ولا قوم لوط ولا أساطير سدوم وعمورية العامرة بالرذائل والفسوق وبطر الثروة حين تنطلق من عقالها بعد جدب وقحط ورياح وسموم هوجاء.
ليست حكايات الأقوام الغابرة ولا تلك المقبلة من القرن الأربعين وعالم النجوم.

حكايات الطفولة البسيطة التي ذهبت بددا
وعاث جنباتها التلف والخراب
أرض بوار
وفيافي ينعق فيها الغراب.

روت آخر نائحات القرية هذه الحكاية
المقصوصة الجناحين كطائر يتيم:
بعد انقضاء الصيف عادت الضباع مع طيور الصّبا
حاملة في مناقيرها السهوب
على حافة المقابر والبيوت تتحلّق بعد غيبة طويلة ظنّ الأهالي أن لا عودة بعدها وأنها ذهبت إلى الأبد. لكن ها هي بجرائها وأفراخها تقفز مع ضياء الفجر الأول من قبر إلى بيت وفوق خيام الزطّ

في الوادي السحيق المطوّق بخيال الأبراج
والسّحرة من كل الجهات، مرحة برحيل
القيظ ترضع مع الصبية والموتى لبن الصباح.

v v v

في مكان قصي يتبدى مثل كهف مقذوف
في العاصفة، بين الجبل والبحر، عشت
فترة من الطفولة
هناك تعلمت السباحة في البحر
وفي عيني أسماك القرش
وحدّقت مليا في سجناء الجلالي الذي كان البرتغاليون يسمونه قلعة سانت غوا – وهم يحملون الأثقال من الأسفل بأصفادهم إلى رأس ذلك

البناء الجبلي، الذي كان في الماضي
دعامة للدفاع عن المدينة.

هناك شاهدت العناق الأول
بين الجبل والبحر
شاهدت ارتطام الصباحات ببعضها
كالنيازك
ورأيت ميلاد الأبديّة.

شاهدتُ العُزلات تمشي وحيدة
كالوعول قرب هيجان المحيط
والأجساد تطفو فوق الزّبد والحطام

وكان القادمون من بلدان (المتروبول)
يطلُون من شرفاتهم ذات الطُرز الهندية بينما كنا نقرأ دروس اللغة والفقه، على ضوء السرجان التي تتنفس بصعوبة مثل كائنات تحتضر.

وهناك أيضاً تخيلنا البحارة في المناور والمراكب الشراعية غاطسين في أعماق (سلامة وبناتها) وشاهدنا بحر الظلمات.
وكان الصيادون الفقراء يأتوننا لقراءة الطالع البحري فنقرأ لهم شعرا للمتنبي وأبي مسلم، على شكل تعاويذ حتى يصطادوا بوفرة فيغمرون التلاميذ بالسمك والحلوى.
وجزيرة سرنديب حيث يأكلون الفيلة والبشر ويطيرون بأجنحة من نار.

v v v

كان ذلك عام 1965، أتذكر كنا ننام على حافة الوادي في (سرور) على جري العادة في الأصياف اللاهبة. كنا نفترش المسيل الذي تلمع أحجاره الصغيرة تحت سطوة الضوء الباذخ لقمر تشرين. وكانت أصوات صناطير القيّاظة ولهاث نسائهم خلف الستائر الخفيفة البيضاء التي يمتازون بها عن أهل البلدة، تغمرنا بالفضول وهجس الرغبة الأولى، بالرحيل وارتياد الأجساد.

كنا صبية الوادي الأشقياء.
وعصابة الجبال التي تصطاد الفجر والقطا.

بينما الأهل غارقون في نهر نومهم الذي تفيض على جوانبه الأحلام والمشاجرات.
في ذلك اليوم، اليوم نفسه سمعنا النداء الغامض قادما من أسافل القرية يتهادى مثقلاً بطحالبه ونعاسه، مبشّراً بوصول القادمين من الشرق الأفريقي وزنجبار إثر الانقلاب في تلك الأقاصي السوداء، بعد أن حكمها العُمانيون عقوداً متتالية، ملتهمين طقسها وعطاءها الوفير كما ظلوا يتحدثون، مأخوذين بسرد الذكريات والمغامرات والأعاجيب. وباعة الورس القادمين من حضرموت. رحالة البدو من أقاصي وهيبة والربع الخالي يتدفقون على الوادي المعشب بلياليه والقادمين لقضاء ليلة.
والعابرين نحو البنادر والبحار.

وكنا نحن عصابة الإصغاء، نلملم أطراف المشهد
معيدين بناء المغامرة في مخيلاتنا المرتجفة من فرط
الهواجس وأحلام الاقتحام

وفي اليوم نفسه، ربما من عام آخر
وزمن آخر غير موجود في الذاكرة البشرية
وبعد ما مرت سنوات عجاف
هلك فيها الزرع والضرع، سمعنا النداء نفسه من أعالي القرية
هذه المرة،
ينبئ بالسيول الكاسرة التي تبدو في اندفاعها
الكاسح ورهافتها وملمسها السماوي الحزين كأنما
قادمة من خلف جبال الكون.

(11)


في واد مكتظّ بالأفاعي والزرافات
رأيت الرجال الشّقر
يرمون اللحم للنسور
ويلحقون بها خفية
حتى تحط في مكان آخر من البيداء:
كان ذلك دليلهم الهندسي
الذي يقودهم نحو مواطن
الألماس.

(12)


طريق الحرير
جسر الغرب نحو الذهب
رأس الرجاء الصالح
ابن ماجد (مالندي)
ناهضاً من ليلة مؤرقة
أو سادرا يراقب النجوم
بين يديه خرائط
لكنه يحدق في راحتيه ليقرأ أسرار المحيطات
في (مالندي)
لم تزده النسوة الأفريقيات
إلا شبقا بالبحر
وهياما بالمغامرة.
أراه الآن وحيداً
يرقص الموج على جبينه
كما ترقص شمس المغيب في تلك
الغابات الاستوائية.

أحس نبضه محمولا على كواكب سيارة.

ربما لسعته أفعى الغابة
ربما تذكر طفولته في بحر عُمان
وصحبه الذين هلكوا
ومازالت أرواحهم ترتجف على الصواري
وقيعان البحار.
أفكّر فيه فيكبر الإنسان على أرضه
المحروقة.
ابن ماجد سليل الخطر، مروّض العاصفة في ليلة هاج فيها الموج وأزبد وسط ظلام مذعور يرتطم فيه صراخ الغرقى وتضمحل على حائطه الإرادات.

قدت العاصفة كما قاد أسلافك
البغال والأسلحة في تلك المنعطفات
الجبلية الوعرة.
واستشرفت نجمة الصباح
كنت في (مالندي) عام 1447
حين قدت فاسكو دي جاما وقراصنة
البرتغال الشرسين
إلى المياه الدافئة:
كنت نسر البحر لكشوفاتك الخاسرة.

(13)


الشجر أرخى غصونه
وأفعى الصيف بدأت في تجوالها الليلي
في ضوء القمر الكبير.

الجيران يحلمون بها تنام على فراشهم
فحيحها يغطي عليهم مساحة الجنس
الذي تبدـأ شموعه ببطء كمريض يتعافى.
الجيران الذين لم يتعودوا على الأفاعي
وظلمة الكهوف
جاءوا بعد اكتشاف النفط
محمولين على كاهل الأسطورة
وكنوز الصحراء.

الصباح أرخى قلوعه هو الآخر
تبدأ يومك متطيراً، مرتبكاً
تخطو من سريرك، نحو الحمّام
كأنما تحمل ثقل العالم على كتفك
ملاحقاً بالحشود والنميمة.

لا تحمل فكرة، أية فكرة، كالنظر في المرآة مثلا، فتح شباك، إطلاق نظرة على جبل الأحقاف وصرعى الأوبئة والسراب، استعادة كوابيس البارحة التي أصبحت محض عادة مضجرة كسائر أوجه الحياة. لا تفكر في شيء لا تضمر شيئاً، حتى الكراهية التي ربيتها مثل طفلك المدلل ذبلت مع الأيام وكذلك

الذكريات والمحن والعلاقات،
صارت جزءاً من هباء هذا المغيب
الذي يضطرم أمامك مثل حريق
خرافيّ.

لا تبالي من رحل اليوم ومن سيأتي غداً، من فرش الأرض بالدولارات والجثث ومن مات جوعا. من انكسر جبينه أمام الجزّار ومن قتل زوجته خشية انكشاف السّر. من كتب قصيدة طليعية ومن احتمى بخيام الأسلاف.

السكينة، لهب السكينة يدب صقيعه في جسدك المتخثر بفعل الأدوية. سكينة الموتى. سكينة الغيلان في صيف سرور سكينة المنازل المهجورة التي تخلع مفاصلها الريح من غير رحمة كسكين تجز الأوردة ببرود أعصاب.
متعة القصاب الذي يداعب ضحاياه
التي لا يضرها السلخ بعد أن قضت نحبها
وجاوزت عتبة الموت بقرون.

تخطو نحو الباب كأنما تذرع قارة بكاملها،
ترمق الحقائب التي تبعثرت أشياؤها
كأحشاء قتيل، دمه مازال ينزف،
حارا حرارة الصيف الساحق،دم المهرج
والشاعر، دم التائهين
في برية الله.

كل هذا وأنت لم تتجاوز عتبة الباب
مفكرا في عطل المصعد بعمارة لا مصعد لها ..

الجيران بدأوا في الندْب بسبب ظهور شبح الأفعى، يتدافعون على السلالم والممرات هاربين من حرب الأيام الستّة وحروب أخرى أكثر فداحة.

الجيران الذين كانت حناجرهم تسيل في جوف الليالي المدلهمة، بالغناء والمرح وقرع الطبول، باتوا ينتظرون ظهور الأفعى مصحوبة بقمرها المزدان بزغب الطائر الأسود، قنطرة الخلاص من الضجر المتراكم وسعال البطون المتخمة من قلة الحركة والأحداث السعيدة التي لا يعرفونها
إلا من خلال الأطباق والشاشات
التي تميد بها أرض البشر كأثينا
جديدة تربض بأجنحتها الأولمبية
الضخمة على الأجنة والأفئدة
والرؤوس.

تفكر في عطل المصعد ببناية لا مصعد لها،
في السمك المنتن في المطبخ والنور المكسور...
الظهيرة، الظهيرة الهادرة في أعماقك في الكون المحيط بأكمله تجعلك لا تستطيع تذكر أي مطر مر بحياتك ولا حتى عبور غيمة في سماء مقفرة ... المرأة، المرأة نفسها تعبر السلم، تدلف الباب المفتوح تتسلق لمبة النور والنوافذ المغلقة.
تتذكر المطر كرنين أجراس بعيدة تستلقي على السرير لبؤة جائعة وتخنق زر التسجيل بحركة من إبهام رجلها حيث تأخذ في قضم التفاح ومداعبة عضوها حتى تنتفض وتتلاشى في الضوء الرخو لذكريات المدينة.

تقرأ رسائل من أصدقائك يشكون قسوة المنافي والحنين إلى الأوطان الأولى والأحبة الغاربين، تفكر في قضم التفاح مع المرأة المستلقية على مؤخرة ذكرياتها؛ وتأخذ في استدعاء نمور تقطع أودية وغابات؛ النمور التي تخبئ الأدغال تحت جلدها كتميمة تتوارثها، تقفر مع الهواء والمياه القريبة مع النبع في السهوب الخضراء، نمور البنغال، تمضي في دروب تبتكرها المخيّلة في هذه الظهيرة التي يحار المرء في أي الطرق يمضي فيها إلى حتفه مسلحا بحتمية صارمة لنهاية الكائن وهو يختنق في خضم الصحراء، بخزانات التهريب مثل تلك الحتمية التي ابتكرها كنفاني وهو يدعو نموره وأشباله وهجراته في غابات الأسلحة والظهيرة، والتي الصحراء قبله بعد أن تحولت عن مسارها الأزليّ.

(14)


يتناسلون في حفر تحيض فيها الظهيرة
والجرذان، يتنادون بأسماء ليست أسماءهم ووجوه مسحولة وذابلة من فرط الصعود اليومي على سلالم الضعة والنفاق.

هذا اليباس كله
هذه العربات الثقيلة
هذه الجموع المتدفقة من باطن الأرض أمام الأوابد الدكناء كأنما خرجت من ملاجئ حرب لا وجود لها، تنهال على المحلات والمصحات والثكنات كما انهالت على الآبار الجافة في الماضي القريب.

لا يحلمون بشيء عدا أعضائهم
تتهشم تحت العجلات
سائرين في نومهم من سطح إلى
هاوية، لا يستطيعون حتى البكاء،
لقد تحجر الدمع في العيون، وجرفتهم
من التلال المجاورة شآبيب اللعنات.

آه، لقد احتجب قرص الشمس إثر
غيمة شريدة
مطب جوي قادم من بلاد فارس
يمكننا النزول إلى البحر
يمكننا تناول الطعام خارج المنزل.
يمكننا مضاجعة الآسيويات في المستشفى المجاور.

يمكننا عمل أشياء كثيرة يعج بها هذا
الرأس المفصول عن جسده ..
لكن ماذا نعمل بهذا الحيوان الجائع في
الأعماق، الوريث الأعمى
وريث أيامنا الذي ضل طريقه نحو القطيع
فمات غريباً بين غرباء في أراضٍ بعيدة
مات بطلقة قناص طائشة.

ربما كان سعيداً أو هادئاً على الأقل من غير
مشيعين ولا نائحات ولا يحزنون.

(15)


أطلق سراح النظر إلى آخره
فأرى سور الحياةُ المتهدّم
وحوله أقوام
يزحفون على بطونهم
تحت سماء حافية
وأراضٍ يسحلها الزلزال.

غرباء
جاءوا من كل صوب
وانتثروا في الأصقاع
هاربين من ملوك الطوائف
وطغاة الأقاليم
حين شاهدوا ظل السور العظيم
لاذوا به
قرأوا كتباً عن ماضيه
عن بُناته ومؤسسيه
اطمأنوا للقدرة
وهي تنثر ورودها على الثقلين
ناموا في سكينة
حتى أتاهم هادم الذات
فهاموا في الصحراء من جديد.

(16)


أُطلق سراح النظر
أطلق سراح أيامي
كما لو أني انتظر صاعقة تمزق
مضجع المدن وتكنس أعضاءها
البليدة في آخر مصب
لأنهار النفايات.

انتظر السيكلوب ذي العين الواحدة
صانع الصواعق:
يقول آخر أصدقائي، في طريقه
إلى الحانة مرتشفاً كأسها الأخيرة
بينما يفكر في حانة أخرى تجرفه
نحو صباح آخر
صباح العودة إلى أرض
الضفاف والحرية قبل أن تصفعه
نوبة السكر والريح الساخنة ملفوحا
إلى أرض الحقيقة والنسيان.

ظل يجدد انتظار المشيئة الصاعقة
كلما حط على كتفه
أو نعقت بومة الربيع.

(17)


أسرّح النظر
برهافة الغياب
فأرى الأربعين
تلهث في غار إلى غار
ومن مدينة إلى أخرى
وعْلاً فاجأه هياج القنّاص
جندياً نسي عدته في المعركة
باحثاً عن سراب استراحة
فأسا ينفصل عن رأس عاشقه
بعد سنين من العناق
مسافراً في ليل نواياه.

(18)


أُطلق سراح النظر إلى آخره
فأرى القوم على المواقد
يرتبون الأيام والشعاب
صامتين ثكالى
يخبط الموج أقدامهم
أمام شمس نازفة في العيون.

أيتها القادمة من فجاج الرأس
ومدافن القتلى
في فمك غصن الانتقام
في يدك أيقونة السكينة
امنحيهم بعض حنانك
قطرةً من بحر الشفقة.
هؤلاء أبناؤك
قادمون من أرصفة الطوفان
من أزمنة البغضاء والعشائر
عشّاقك منذ القدم
جارت عليهم صروف الدهر
وطائر الشؤم
أفقس بيوضه في السلالة.

في أي جهة ستمضي هذا المساء؟
وبأي الآلاء ستقسم على عمر هارب؟
مدن تتقاطر في النوم تقطعها قطاراتٌ
تحسب صفيرها
نواح ذئاب.
مدن تتقافز من صباحات مُحاصرة
تحمل متسكعين وغرقى
تحمل مقاهي
ربما جلس فيها ذات يوم
عشاق ومقاتلون في
حروب عبثيّة.

البارحة زاروك في النوم
افترسوا المسافة كاملة
بين السور العظيم وصحراء الجزيرة
قالوا إنك غبت طويلاً
تحدثوا عن خوفهم من الرمال والجبال
أخذوا يشربون ويضحكون بهستيريا
حتى انفجر الصباح على رأسك
واستيقظت على خوار المكيّفات.

هكذا دأبهم
يأتون من كل جهات الأرض
ملاّحو أفلاك وانهيارات
يقتحمون هدوئي كل يوم
كما يقتحم الرعاة من البلدات المجاورة
طالبين تواقيع على أراضٍ
غير موجودة في الخارطة
أسقيهم قهوة وتمراً
فيرحلون
آخذين معهم هدوئي
وبقايا صباح مازلت أحلم بقدومه
ربما يحمل لي أخباراً
من ربوع المغرب
من بغداد والقاهرة
من بيروت
صباح أحلم فيه بكتابة قصيدة
(لا تنسف العالم لكنها تزيح قليلا
صخرة الحنين)
قصيدة تأكل نفسها بمرايا جبال غسقية
البحر الذي حاول تعميدها
فاستنفرت أثر الوحش في الصحراء
وفتكت بأسحارها الظنون
حتى تاهت في طريقها إلى بيت السبايا
لأنها سكنت بيت الأشباح
عارية كالصرخة يقذفها الملاك أو الشيطان
أمام الله والخلائق
مسحورة بسفرها الليلي
بين بحيرات الشمع
والمياه المتدفقة من فم الخلجان.

الراديو أمامي يغصّ بموسيقاه: FM
كما يغصّ حقل بمائه
في كل صباح
في اليباب المحيط
أصحو
مفرقاً أفواج الجراد
لقد طالت إقامته هذا العام
كأنما سيرث الأرض والزمان
انظري إليه يا إيفا
إلى عينيه الحزينتين كوريث محتمل
تدوران في محجريهما طلقةً غاضبة
إلى عزلته حتى وهو في السرب
انظري إليه يا إيفا
كيف يحلق فوق سقف المدينة –
التي هجرتها الأيائل والآلهة
مدينة الصبر والطاعة
مدينة الندم،
منجم الكراهية –
محمولا على بساط أصفر
من قيء البراكين
وزبد الجوائح
أصفر هو الجراد
صفراء هي الأبقار تجفل فوق السهل
انظري
إلى الأعراب الجدد
يتطاولون في البنيان
ويتفيأون ظلال الثكنات
انظري يا إيفا
إلى القرن العشرين
إلى المياه السوداء
تطفو على أديمها الأرواح والجثث
انظري
إلى الذريّة المباركة
في كهوفها وناطحات سحابها
انظري
إلى الخطيئة الأصليّة.



فصيح متنوع

محاولةُ رسمِ لوحةٍ سريعة
قوس قزح يمشي على الأرض
نتسلقُ ظلالنا كما تتسلقُ العظايا ...
أنين الموتى تحت العربات
السحرةُ ينادون بعضهم بأسماء مستعاره ...

(1) - (18)
قصيدةُ حبِّ إلى مطْرح
الليــلة الأخيرة
مديـنة تستيقظ
لـــــــــن تــقــرع الأجــراس

أرقام هواتف الادارة للمساعدة : محمد الراسبي : 99811116 - إبراهيم الرواحي : 95158950

لا يجوز نشر أي قصيدة إلا بكتابة إسم صاحبها