المجلة الادبية YOU COULD PUT BANNER/TEXT/HTML HERE, OR JUST REMOVE ME, I AM IN header.htm TEMPLATE

جديد الأخبار


تغذيات RSS

الأخبار
العدد 22
صور من البلاغة عند الصِّبيان
صور من البلاغة عند الصِّبيان
03-01-2013 04:26 PM
صور من البلاغة عند الصِّبيان
محي الدِّين عوَّاد الظاهر- سوريا

البلاغة :
من حيث اللغة هي أن يقال : بلغت المكان إذا أشرفت عليه , وإن لم تدخل فيه . قال الله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف *سورة الطلاق : (3 ) } , وقال المفسِّرين في قوله تعالى : { أم لكم أيمان علينا بالغة ...* سورة القلم (39) } أيّ وثيقة قد بلغت النِّهاية , وقال اليونانيُّ : البلاغة وضوح الدَّلالة , وانتهاز الفرصة , وحسن الإشارة , وقال الهندي : البلاغة تصحيح الأقسام , واختيار الكلام . وقال الكندي يجب على البليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني , وقيل أنَّ معاوية سأل عمرو بن العاص من أبلغ النَّاس ؟ فقال : أقلَّهم لفظاً , وأسهلهم معنى , وأحسنهم بديهة . ويبقى سيد البشر محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أبلغ النّاس حيث يقول : " نصرت بالرُّعب وأوتيت مجامع الكلم " وذلك أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يتلَّفظ باللفظ اليسير الدَّال على المعاني .

وقال أبو عبد الله وزير المهديِّ : البلاغة ما فهمته العامَّة , ورضيت به الخاصَّة , وقال البحتريُّ خير الكلام ما قلَّ وجلَّ ودلَّ , ولم يمل , وقالوا البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان , ولا يسلك إلا ببصائر البيان , وقال الشَّاعر :

لكَ البلاغةُ مَيدَانُ نشَأتَ بِهِ ..... وَكُلُنَـــا بِقُصُورٍ عَنْـــــكَ نَعْتَــرِفُ
مُهدٍ لي العَفرَ نَظمٌ بَعَثتَ به ..... مَنْ عِندَهُ الحُرُّ لا يُهدى لَهُ الصَّدَفُ

وروي أنَّ ليلى الأخيلية مدحت الحجَّاج , فقال : يا غلام اذهب إلى فلان , وقل له : أن يقطع لسانها , فطلب حجَّاماً , فقالت : ثكلتك أمُّك إنَّما أمرك أن تقطع لساني بالصِّلة , فلولا تبصُّرها بأنحاء الكلام , ومذاهب العرب , والتوسعة في اللفظ , ومعاني الخطَّاب لتمَّ عليها جهل هذا الرَّجل .


وقال الثعالبيُّ : البليغ من يحوِّل الكلام على حسب الأمالي , ويخيط الألفاظ على قدر المعاني , والكلام البليغ ما كان لفظه فحلاً , ومعناه بكراً .
قال إسحق بن حسَّان : لم يفسِّر أحد البلاغة تفسير ابن المقفع . إذ قال : البلاغة اسم لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة , منه ما يكون في السُّكوت , ومنها ما يكون في الاستماع , ومنها ما يكون في الشِّعر ومنها ما يكون خطبا , وربما كانت رسائل . فعامَّة ما يكون من هذه الأبواب فالوحي , والإشارة إلى المعنى أبلغ , والإجاز هو البلاغة .
فقوله : (منها ما يكون في السُّكوت ), فالسُّكوت يسمَّى بلاغة مجازاً , وهو في حالة لا ينجح فيها لكلام, ولا ينفع فيها إقامة الحجج . إمَّا عند جاهل لا يفهم الخطاب , أو وضيع لا يرهب الجواب , أو ظالم سليط يحكم بالهوى , وإذا كان الكلام يعرى من الخير , أو يجلب الشَّرَّ , فالسُّكوت أولى , كما قال أبو العتاهية :

مَــــــا كُــــــلُّ نُطْـقٍ لَـــــــهُ جَــــــوَابٌ ....... جَــــــوَابُ مَــــا يُكــرَهُ السّـــــُكوتُ

والبلاغة ليست مقصورة على الرَّاشدين بل هناك صبية أذكياء نجباء , ولدت البلاغة معهم , ولا يخفى على أحد أننا عندما نقرأ سير العظماء , ونعود إلى مراحل صباهم , فإنَّنا نرى النَّجابة , والإبداع , والفطنة , والذكاء ظهرت بوادره في وقت مبكِّر من حياتهم ... وخاصَّة العلماء منهم .

وعندما نتلو كتاب الله تعالى , ونتأمل فيه نرى أنَّ الله جلَّ , وعلا يخبرنا أنَّه آتى يحيى الحكم صبياً , وأنَّ قوم إبراهيم قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم , وفي أصحاب الكهف : إنَّهم فتية آمنوا بربهم ......

وسأعرض لك صوراً من بلاغة الأطفال الأذكياء المبدعين من الصحابة وغيرهم وفي ميادين شتَّى , وسأهتمُّ بجانب واحد من جوانب ذكاء , وبلاغة هؤلاء الأطفال حيث ينطقون بأجوبة محكمة السَّبك , رصينة العبارة , راسخة كرسوخ الجبال الشُّمِّ تدلُّ على بلاغة , وبيان مع ثقة الطِّفل المتكلِّم بها بنفسه , واحترامه لمن يخاطبه ......


قيل : أنَّ يزيد بن قرَّة الشَّيبانيّ شديداً منيعاً , وكان يرى رأي الخوارج , ولم يكن يخشى عمال العراق , فغاظ ذلك الحجَّاج , فكتب إلى عبد الملك يخبره بذلك , فكتب إليه : أن أحتل له , فإن قدرت عليه , فاضرب عنقه . فدعا الحجَّاج : يزيد بن رويم , وجرير بن يزيد , فأكرمهما , وأدناهما , وقال ليزيد : لك شرط العراق , ولجرير ديوان الخراج , إن أنتما أتيتماني بيزيد بن قرَّة . فركبا إلى يزيد , فقالا له : الأمير غضب عليك , وإنَّا نخاف أن ينال غضبه جميع قومك , فاركب إليه . قال يزيد بن قرّة : لا أفعل إنَّه إن نظر إليَّ قتلني . فقالا له : ما هو فاعل – إن شاء الله – ولابدَّ أن تركب معنا , فلبس ثياباً بيضاء , وتهيَّأ للقتل , فلمَّا أدخل على الحجَّاج قال له : أنت يزيد بن قرَّة ؟ قال : نعم . قال الحجَّج قتلني الله إن لم أقتلك . قال أيُّها الأمير اتق الله بسبع عشرة امرأة , أو تسع عشرة امرأة ليس لهنَّ غيري , قال : ومن يعلم ذلك . قال هنَّ بالباب , فأمر الحجَّاج بإدخالهنَّ , فسألهنَّ الحجَّاج : عن شأنهنَّ , فأصبحت كلَُّ واحدة تقول : اقتلني , ودعه , فيقول الحجَّاج:من أنت ؟ فتقول : عمَّته أو خالته ,أو ابنته , أو بنت أخت , أو بنت أخ حتَّى اجتمعن بين يديه قياماً , فقامت من بينهنَّ بنيَّة صغيرة , فبكت بكاءً حارَّا موجعا محرقاً , وأنشأت تقول :

أحَجَّاجُ إمَّـا أنْ تَجُـودَ بِنِعْمَةٍ .... عَلَينـــــَا وَإمَّـــا أنْ تَقتلنُـــا معا
أحَجَّاجُ كَمْ تَفْجَع بِهِ إنْ قتَلْتِهُ .... ثلاثــاً وَعّشـرْاً واثنَتينِ وأرْبَعَا
أحَجَّاجُ لَو تَسْمَعُ بُكاءَ نِسَائِهِ .... وَعَمَّاتِـــهِ يَنْدُبْنَــهُ الليلَ أجْمَـعَا
فَمَـنْ رَجُلٍ دَانٍ يَقومُ مَقامـَهُ .... عَلينَا , فمَهْلاً لا تَزِدْنَا تَضَضُعَا
أحَجَّاجُ هِبْهُ اليومَ للهِ وَحْــده .... وَللباكياتِ الصَّارِخَــاتِ تَفجُّعَــا

فرقَّ الحجَّاج لها , وبكى , وكتب في أمره إلى عبد الملك يصفُّ ما جرى , ويسأله العفو عن يزيد , فكتب إليه : إن كان حقاً فاعف عنه , وألحق عياله في العطاء , ففعل .


مرَََّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بصبيان يلعبون , وفيهم عبد الله بن الزُّبير , ففروا, وثبت ابن الزُّبير , فقال له عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : لماذا لم تفر مع أصحابك ؟ قال ابن الزُّبير : لم أجرم فأخافك , ولم يكن بالطَّريق من ضيق فأوسع لك .

قال الفرزدق : ما عييت بجواب أحد قط مثل ما عييت بجواب امرأة , وصبيّ , فأمّا المرأة , فإنَّي ذهبت ببغلتي أسقيها من النَّهر , فإذا معشر نسوة على ضفَّة النَّهر , فلمّا همزت البغلة حبقت , فاستضحك ذلك النَّسوة , فقلت لهنَّ : ما أضحككنَّ ؟ فوالله ما حملتني أنثى إلا فعلت مثلها ؟ فقالت امرأة منهنَّ : فكيف كان ضراط أمِّك فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر ؟ فما وجدت لها جواباً , وأمَّا الصَّبيُّ , فإنَّي كنت أنشد الشعر بجامع البصرة , وفي حلقتي الكميت بن زيد , وهو صبيٌّ , فأعجبني حسن استماعه , فقلت له : كيف سمعت يا بنيَ ؟ قال : حسن , قلت أيسرُّك أنَّي أبوك ؟ قال الصبيُّ : أمَّا أبي , فلا أريد به بديلا , ولكن وددت أن تكون أمي ؟ فقلت له : استرها عليَّ يا ابن أخي , فما لقيت مثلها .


قال الجاحظ : أنَّ ثمامة قال : دخلت إلى صديق لي أعوده , وتركت حماري على الباب , ولم يكن معي غلام , ثمَّ خرجت , وإذ فوق حماري صبيُّ , فقلت له , أتركب حماري بغير إذني ؟ فقال الصَّبيُّ : خفت أن يذهب فحفظته لك , فقلت له : كان أحبَّ إليَّ من بقائه , فقال لي الصَّبيُّ : فإن كان هذا رأيك في الحمار , فاعمل على أنَّه قد ذهب , وهبه لي , واربح شكري .
وذكر صاحب كتاب نجباء الأبناء أنَّ الرَّشيد اطَّلع من مستشرف له في قصره , فرأى ولده عبد الله المأمون يكتب على حائط , وكان صبيَّاً صغيراً , فقال للخادم : انطلق حتّى تنظر ماذا يكتب عبد الله , واحرص على ألا يفطن لك , فذهب الخادم , فتسلل حتَّى قام من خلفه , وهو مقبل على الحائط , فعاد الخادم إلى الرَّشيد فأخبره أنَّه كتب :

قُـــلْ لابــــنِ حَمــــْزَةَ مَــــــــا تَـــــرَى .... فـــــي زير يــــــــاجٍ مُحْكمَـــــــــه ؟

فقال له الرَّشيد : ارجع , فسله عمَّا يكتب , فسيقول لك : إنِّي مفكِّر في التتميم على هذا البيت , فقل له : اكتب تحته :

قــــــــالَ ابْــــــــنُ حَمْــــزَةَ يَا بُنَـــــيَ .... هَزُلــــــتْ مُجتَرِئَـــــــــاً فَمـــــــــــَهْ

فانطلق الخادم إلى عبد الله , فكان ما ظنَّه الرَّشيد , ففعل الغلام ما أمره به , فأطرق عبد الله قليلاً , ثمَّ قال : لولا أنَّك مأمور لم تنجِ من يدي
فرجع الخادم إلى الرَّشيد , فأخبره , فقال : نجوت . ثمَّ دعا الكسائي , وقال له : من أين علم عبد الله أنَّ الخادم مأمور ؟ فقال الكسائي : علمه من قوله : هزلت مجترئاً فمهْ , إذ كان الخادم لا يقدر على مخاطبته بذلك إلا عن أمر .


ومن المنقول عن أذكياء الصِّبيان أنَّه وقف إياس بن معاوية , عندما كان صبيَّاً على قاضي دمشق , ومعه شيخ , فقال أصلح الله القاضي هذا الشِّيخ ظلمني , وأكل مالي , فقال القاضي : أرفق بالشَّيخ , ولا تستقبله بمثل هذا الكلام , فقال إياس إنَّ الحقَّ أكبر منَّي , ومنه , فقال القاضي : اسكت . قال إيَّاس : وإن سكتُّ , فمن يقوم بحجَّتي ؟ قال تكلَّم , والله لا تتكلَّم بخير , فقال إيَّاس : لا إله إلا الله وحده لا شريك له , فبلغ ذلك الخليفة , فعزل القاضي , وولَّى إياساً مكانه .


ولمَّا دخل عبد الملك البصرة , رأى إياساً , وهو صبيٌّ , وخلفه أربعة من القرَّاء , وأصحاب الطيالسة , والعمائم , وإياس يتقدَّمهم , فقال عبد الملك : أما فيكم شيخ يتقدّمكم غير هذا الحدث ؟ ثمَّ التفت إليه عبد الملك , وقال : كم سنُّك ؟ قال إياس سنِّي – أطال الله بقاء الأمير – سنّ أسامة بن زيد عندما ولاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جيشاً فيه أبو بكر , وعمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما , فقال عبد الملك تقدَّم بارك الله فيك , وكان سنَّه سبع عشرة سنة .


وحكى أبو الحسن محمَّد بن جعفر البصريّ عن أبيه أنَّه جاور ببغداد في أيَّام المقتدر رجلاً من جلَّة الكتَّاب , ونشأ له ولدان فتنا أهل بغداد بحسنهما , فبلغ الأكبر منهما الحلم , فنقله من المكتب إلى الدِّيوان , وأراد أن يحصنه بجارية , فابتاعها له بألف دينار , وقال له : لا تعلم أخاك فإنَّه يصغر عن ذلك , فنمَّت داية الابن الأصغر الأمر إليه , وقالت : إنَّ أباك خصَّ أخاك بشيء دونك , فسألها بِمَ خصَّه ؟ قالت الدَّاية : بجارية , فقال : هو إليها أحوج , وأنا عنها أغنى غير أنَّي أشفق أن يتسع الخرق بينا , وما علمت أنَّه فضل عليَّ بشيء مذ نشأت , وأنا أجلُّ والدي عن المشافهة , ولكن هاتي دواة , فكتب إلي والده :

لَيـــْسَ لــــي بعــــــدَ إلهـــــــي .... مُشْــتكـــــى إلا إليكــــــــــــــا
وأخِــــي فـــي الفَضْــلِ مِثلـــي .... وَكِلانَــــــا فـــــي يَــديكــــــــا
لا تُفََضِّلْـــــــــــــــــهُ عَلـــــــيَّ .... بِــالحَبَــــــا مِــــنْ نَاظِريْكــــا
إنَّمَـــــا ابْنَـــــــــــاكَ كعَينيــــــ .... ـــــكَ فَــــــدَاوي مُقلّتَيكَــــــــا
إنْ أذقْــــــــتَ العَيــــنَ كُحْـــلاً .... هَاجَــــتْ الأخْـــرَى عَلَيكــــــا

فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه , وأنفذها إليه .


وقال سنان بن مسلمة : كنّا صبية في المدينة نلتقط في أصول النَّخل البلح الذي يسمُّونه الخلال , فخرج إلينا عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه , فتفرق الصبيان , وبقيت مكاني , فلمَّا غشيني قلت له : يا أمير المؤمنين إنَّما هذا ما ألقت به الرِّيح قال أمير المؤمنين : أرني انظر فإنَّه لا يخفي عليَّ قال , فنظر في حجري , فقال : صدقت , فقلت له : يا أمير المؤمنين ترى هؤلاء الصبيان , والله لئن انطلقت لأغاروا عليَّ فانتزعوا ما في يدي قال , فمشى معي حتَّى بلغني مأمني .


وقيل : أنَّه عزم الفضل بن الرَّبيع على تطهير بعض ولده , فأتى الرَّشيد , فقال : يا سيدي قد عزم عبدك على تطهير ولده خادمك , فإن رأى أمير المؤمنين أن يزيَّن عبده بنفسه , ويصل نعمته هذه بنعمته المتقدَّمة , ويتمَّ سروره , ففعل متفضِّلاً على عبده مممتناً بذلك , فقال الرشيد : نعم . فغدا إليه , وقد أصلح جميع ما يحتاج إليه , ووضعت الموائد , وقعد النَّاس يأكلون , وأقبل الرَّشيد يدور في داره , فرأى صبياً صغيراً , فقال له الرَّشيد : يا صبيُّ أيُّهما أحسن داركم هذه أم دار أمير المؤمنين ؟ فقال الصَّبيُّ : دارنا هذه أحسن ما دام أمير المؤمنين فيها , فإذا صار أمير المؤمنين في داره , فداره أحسن , فضحك الرَّشيد , وتعجَّب من نجابته , ووهب له عشر قريات , ومائة ألف درهم .


ولمَّا أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه , أتته الوفود , فإذا فيها وفد الحجاز , فنظر إلى صبيِّ صغير السِّن , وقد أراد أن يتكلَّم , فقال : ليتكلَّم من هو أسن منك , فإنَّه أحقَّ بالكلام هو منك , فقال الصَّبيُّ : يا أمير المؤمنين لو كان القول كما تقول لكان في مجلسك هذا من هو أحقُّ به منك , قال : صدقت , فتكلَّم , فقال : يا أمير المؤمنين , إنَّا قدمنا عليك من بلد تحمد الله الذي منَّ علينا بك رغبة منَّا , ولا رهبة منك , أمّا الرَّغبة , فقد أمنا بك في منازلنا , وأمَّا عدم الرَّهبة , فقد أمنا جورك بعدلك , فنحن وفد الشُّكر والسَّلام .
فقال عمر رضي الله عنه : عظني يا غلام , فقال الصَّبيُّ : يا أمير المؤمنين إنَّ أناساً غرَّهم حلم الله , وثناء النَّاس عليهم , فلا تكن ممَّن
يغرَّه حلم الله , وثناء النَّاس عليه , فتزل قدمك , وتكون من الذين قال الله فيهم : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } فنظر عمر في سنِّ الغلام فإذا له اثنتا عشرة سنة , فأنشدهم عمر رضي الله عنه :

تعلَّمْ فَليسَ المَرءُ يُولَدُ عَالِمَاً .... وَلَيْسَ أخُو عِلمٍ كَمَنْ هوَ جَاهِلُ
فإن كبيرُ القومِ لا عِلمَ عندَهُ .... صّغيرٌ إذا التفتْ عليهِ المَحَافلُ

وقد عمّ النّفع والخير سكان الفيافي المقحطة عندما تكلَّم صبيٌّ في السَّادسة عشرة من عمره بين يدي الخليفة بكلام عربيٍّ فصيح , وبلاغة منقطعة النضير مثل درواس بن حبيب , فقد حكي أنَّ البادية قحطت في أيّام هشام , فقدمت عليه العرب , فهابوا أن يكلِّموه , وكان فيهم صبيٌّ اسمه درواس بن حبيب لم يتجاوز السَّادسة عشرة من عمره , وعليه شملتان , فوقعت عليه عين هشام , فقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل عليَّ إلا دخل حتى الصِّبيان , فوثب درواس حتَى وقف بين يديه مطرقاً , فقال : يا أمير المؤمنين إنَّ للكلام نشراً وطيَّاً , وإنَّه لا يُعرفُ طيَّه إلا بنشره , فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته , فأعجبه كلامه , وقال له : انشره لله درُّك , فقال : يا أمير المؤمنين إنَّه أصابتنا سنون ثلاث , سنة أذابت الشَّحم , وسنة أكلت اللحم , وسنة دقَّت العظم , وفي أيديكم فضول مال , فإنَّ كانت لله , ففرقوها على عباده , وإن كانت لهم , فعلام تحبسونها عنهم , وإن كانت لكم , فتصدَّقوا بها عليهم , فإنّ الله يجزي المتصَّدَّقين , فقال هشام : ما ترك الغلام لنا واحدة من الثلاث عذراً , فأمر للبوادي بمائة ألف دينار , وله بمائة ألف درهم , ثمَّ قال له : ألك حاجة ؟ قال ما لي حاجة في خاصّة نفسي دون عامَّة المسلمين , فخرج من عنده , وهو من أجلِّ القوم.
إنّا ما عرضناه من صور من بلاغة الصبيان هو شي يسير من بلاغة الأطفال , وذكائهم , ونجاباتهم في تاريخنا العربي المجيد الحافل بالكثير , والكثير من ذلك , والبلاغة لا تقتصر كما رأينا على الكبار دون الصغار , أو الذكور دون الإناث , وصغار اليوم هم الآباء في المستقبل , وصغيرات اليوم هنَّ الأمهات في المستقبل .


المراجع : 1

- المحاسن والمساوئ – إبراهيم البيهقي .
2- المستطرف في كلِّ فن مستظرف – الأبشيهي .
3- البيان والتبيين – الجاحظ .
4- العقد الفريد – ابن عبد ربُّه .
5- الصناعتين – أبو هلال العسكريّ .
6- الأذكياء – ابن الجوزيُّ .
7- بدائع البدائه – ابن ظافر .
8- ثمرات الأوراق في المحاضرات – ابن حجَّة الحمويُّ .
9- جمع الجواهر في الملح والنُّوادر – الحصريُّ .
10- حدائق الأزهار في مستحسن الأجوبة – ابن عاصم .
11- أشعار النِّساء – المرزباني .

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 58


خدمات المحتوى


تقييم
0.00/10 (0 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.